Header

 


تبرع لدعم المنتدى

ممنوع منعاً باتاً وضع صور النساء في المواضيع و التواقيع , أو نشر فيديوهات او صور فضائح

 سيتم حذف أي موضوع أو توقيع يشمل ذلك .

العودة   منتــدى الأعمـــال > المنتديات العامة > منتدى الواحـــة الأدبيــة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 27-05-2009, 04:52 AM   #11
بيادر الحب
المراقب العــام
الصورة الرمزية بيادر الحب

المعلومات





آحدث المواضيع


الاتصال

بيادر الحب غير متصل

بيادر الحب تم تعطيل التقييم
افتراضي رد: [ أنت لي ] رواية جميلة للكاتبة / تمرحنا

الجزء العاشر




ما أن خرجت من السور الضخم العملاق المحيط ببنايات السجن ، حتى وجدت سيارة تقف على الطريق المقابل ، و إلى جانبها يقف رجل عرفت فورا أنه صديقي الحميم سيف ...
كنت أسير ببطء شديد ، خشية أن أفيق مما ظننته مجرد حلم ... حلم الحرية ...
أنظر إلى السماء فأرى الشمس المشرقة تبعث إلى بتحياتها و أشواقها الحارة
و أرى الطيور تسبح بحرية في ساحة الكون ... بلا قيود و لا حواجز ...
و أتلفت يمنة و يسرة فتلفحني أنسام الهواء النقية ... عوضا عن أنفاس المساجين المختلطة بدخان السجائر ...
لن أطيل في وصفي لشعوري ساعتها فأنا عاجز عن التصوير ...
تعانقنا أنا و صديقي سيف عناقا حارا جدا و لا أعرف لماذا لم تنصهر دموعي ذلك الوقت !
أ لأنني قد استنفذتها في السنوات الماضية ؟؟
أم لأنني كنت في حالة عدم تصديق ؟؟
أم لأنني فقدت مشاعري و تحجر قلبي و تبلد إحساسي ...؟؟

" حمد لله على خروجك سالما أيها العزيز "

قال سيف و هو يعانقني وسط بحر من الدموع ...

و يدقق النظر إلى تعابير وجهي الغريبة و عيني الجامدة
و أنفي كذلك !

قلت :

" عدا عن كسر بسيط في الأنف ! "

و ضحكنا !

قلت :

" فعلها والدك ؟ "

ابتسم و قال مداعبا :

" والدي و أنا ! بكم تدين لي ؟؟ "

" بثمان سنين من عمري أهديها لك !"

ركبنا السيارة و ابتدأ مشوار العودة ... الطويل
كان المقعد جلدي قد أحرقته الشمس ، و ما إن جلست عليه حتى سرت حرارته في جسدي فحركت فيه حياة كانت ميتة ...
طوال الوقت ، كنت فقط أراقب الأشياء تتحرك من حولي ...
الطريق ...
الشارع ...
الأشجار
كل شيء يتحرك ...
بعد أن قضيت 8 سنوات من الجمود و السكون و الموت ...

8 سنوات من عمري ، ضاعت سدى ... فمن يضمن لي العيش ثمان سنوات أخرى ...
أو أكثر
أو أقل ؟؟
دهشت لدى رؤية آثار الحرب و الدمار ... تخرب البلد ...
الطريق كان شاقا و الشوارع مدمرة ، و كان علينا عبور مناطق لا شوارع بها وقد حضر سيف بسيارة مناسبة للسير فوق الرمال .
بين الفينة و الأخرى ألقي نظرة على ساعة السيارة ، و دونا عن بقية الأشياء من حولي ،لا أشعر بها هي بالذات تتحرك ...
إنني في أشد الشوق لرؤية أهلي ... منزلي ... مدينتي ...
و شديد اللهفة إلى صغيرتي رغد !
آه يا رغد !
ها أنا أعود ...
فهل أنا في حلم ؟؟

كانت الشمس قد استأذنت للرحيل على وعد بالحضور صباحا ، لحظة أن فتحت عيني على صوت يناديني ...

" وصلنا ! انهض عزيزي "

لم أشعر بنفسي حين نمت مقدارا لا أعلمه من الوقت ، إلا أنني الآن أفقت بسرعة و بقوة ...
كان جسدي معرقا و ملتصقا بملابسي و بالمقعد ... و مع ذلك لم أشعر بأي انزعاج أثناء النوم ...

" وصلنا ! إلى أين ؟ "

قلت ذلك و أنا أتلفت يمنة و يسرى و أرى الدنيا مظلمة ... إلا عن أنوار بسيطة تتبعثر من مصابيح موزعة فيما حولي ...

قال سيف :

" إنه منزلي يا وليد "

حدقت بسيف برهة ، ثم قلت :

" خذني إلى منزلي رجاءا ! "

سيف علاه شيء من الحزن و قال :

" كما تعرف يا وليد ... أهلك قد غادروا ... ستبقى معي لحين نهتدي إليهم سبيلا "

قضيت تلك الليلة ، أول ليالي الحرية ، في بيت العزيز سيف .
هل لكم بتصور شعوري عندما وضعت أطباق العشاء أمامي ؟؟
طبخات لم أذقها منذ ثمان سنين ، شعرت بالخجل و أنا مقبل على الطعام بشراهة فيما سيف يراقبني و يبتسم !

" أنا آسف ! إنني جائع جدا ! "

قلت ذلك و أنا مطأطئ بعيني نحو الأسفل خجلا ، إلا أن سيف ضحك و قال :

" هيا يا رجل كل قدر ما تشاء و اطلب المزيد ! بالهناء و العافية "

رفعت بصري إليه و قلت :

" لو تعلم كيف كان طعامي هناك ... ! "

هز سيف رأسه و قال :

" انس ذلك ... لقد كان كابوسا و انتهى ، الحمد لله "

هل انتهى حقا ... ؟؟

رغم أنه كان سريرا ناعما واسعا نظيفا و عطرا ، ألا أنني لم استطع النوم جيدا تلك الليلة ...
كيف تغمض لي عين و أنا مشغول البال و التفكير ... بأهلي ...
و بعد صلاة الفجر ، و حينما عادت الشمس موفية بوعدها ، و اطمأننت إلى أنها صادقة و ستظهر لتشرق حياتي كل يوم ، فتحت النافذة لأسمح بأشعتها للتسرب إلى الغرفة و معانقة جسدي بعد فراق طويل ...

رأيت أشياء كثيرة و مزعجة في نومي ...
سمعت صوت نديم يناديني ...

" انهض يا وليد ، جاء دورك "

كان العساكر يقفون عند باب السجن ينظرون إلي ... لم أشأ النهوض ...
هززت رأسي معترضا ، لكن نديم ظل يناديني
أفقت ، و فتحت عيني لأنظر إليه ، و أرى السقف و الشقوق التي تملأه ، و تخزن عشرات الحشرات بداخلها ...
لكنني رأيت سقفا نظيفا و مزخرف ... منظر لم أعتد رؤيته ... نهضت بسرعة و نظرت من حولي ...

" وليد ! هل أفزعتك ! أنا آسف ! "

كان صديقي سيف يقف إلى جانبي ...
قلت و أنا شبه واع ، و شبه حالم :

" أنت سيف ؟ أم نديم ؟؟ هل أنا في السجن ؟ أم ... "

سيف مد يده و أمسك بيدي بعطف و قال :

" عزيزي ... إنك في بيتي هنا ، لا تقلق ... "

خشيت أن يكون حلما و ينتهي ، حركت يدي الأخرى حتى أطبقت على يد سيف بكلتيهما ، و قلت :

" سيف ! أهي حقيقة ؟ أرجوك لا تجعلني أفيق فجأة فأكتشف أنه مجرد حلم ! هل خرجت أنا من السجن حقا ؟؟ "

الآن فقط ، تفجرت الدموع التي كانت محبوسة في بئر عيني ّ

بعد ذلك ، أصررت على الذهاب للمنزل حتى مع علمي بأن أحدا لم يعد يسكنه
و كلما اقتربنا في طريقنا من الوصول ، كلما تسارعت نبضات قلبي حتى وصلنا و كادت تتوقف !
اتجهت نحو الباب و جعلت أقرع الجرس ، و سيف ينظر إلي بأسى
لم يفتحه أحد ...
جالت بخاطري ذكرى تلك الأيام ، حينما كانت رغد و دانة تتسابقان و تتشاجران من أجل فتح الباب !
التفت إلى الخلف حيث يقف سيف ، و كانت تعابير وجهه تقول : يكفي يا وليد ، لكنني كنت في شوق لا يكبح لدخول بيتي ...
نظرت من حولي ، ثم أقبلت إلى السور ، و هممت بتسلقه !

" وليد ! ما الذي تفعله !؟ "

أجبت و أنا أقفز محاولا الوصول بيدي إلى أعلى السور :

" سأفتح الباب ، انتظرني "

و بعد أن قفزت إلى الداخل فتحت الباب فدخل سيف ...

" و لكن لا جدوى ! كيف ستدخل للداخل ؟ "

بالطبع ستكون الأبواب و النوافذ جميعها مغلقة و موصدة من الداخل ، ألا أنني أستطيع تدبر الأمر !

قلت :

" سترى ! "

و انطلقت نحو الحديقة ...
لم تعد حديقتنا كما كانت في السابق ، خضراء نظرة ... بل تحولت إلى صحراء صفراء جافة ...
انقبض قلبي لدى رؤيتها بهذا الشكل ...
أخذت أتلفت فيما حولي و سيف يراقبني باستغراب
وقعت أنظاري على أدوات الشواء التي نضعها في إحدى الزوايا ، في الحديقة
كم كانت أوقاتا سعيدة تلك التي كنا نقضيها في الشواء
توجهت إليها و أخذت أحفر الرمال ...

" ما الذي تفعله بربك يا وليد ؟؟! هل أخفيت كنزا هناك ؟؟ "

و ما أن أتم سيف جملته حتى استخرجت مفتاحا من تحت الرمال !

تبادلت أنا و سيف النظرات و الابتسامات ، ثم قال :

" عقلية فذة ! كما كنت دائما ! "

و ضحكنا ...
كنت أخفي مفتاحا احتياطيا في تلك الزاوية تحت الرمال منذ عدة سنوات ...
و أخيرا دخلت المنزل
للحظة الأولى أصابت جسدي القشعريرة لرؤية الأشياء في غير أمكنتها ...
تجولت في الممرات و شعرت بالضيق للسكون الرهيب المخيم على المنزل ...
عادة ما كان البيت يعج بأصوات الأطفال و صراخهم ...
صعدت إلى للطابق العلوي قاصدا غرفة نومي ، حيث تركت ذكريات عمري الماضي ... و حين هممت بفتح الباب ، وجدتها مقفلة ...

" تبا ! "

توجهت بعد ذلك إلى غرفة رغد الصغيرة ، المجاورة لغرفتي مباشرة .. مددت يدي و أمسكت بالمقبض ، و أغمضت عيني ، و أدرت المقبض ، فلم ينفتح الباب ...
كانت هي الأخرى مقفلة
أدرت المقبض بعنف ، و ضربت الباب غيظا ... و ركلته من فرط اليأس ...
أخذت أحاول فتح بقية الغرف لكنني وجدتها جميعا مقفلة
فشعرت و كأن الدنيا كلها ... مقفلة أبوابها أمامي ...
عدت إلى غرفة رغد و أنا منهار ...
جثوت على الأرض و أطلقت العنان لعبراتي لتسبح كيفما تشاء ...

" أين ذهبتم ... و تركتموني ؟؟ ... "

أغمضت عيني و تخيلت ...
تخيلت الباب ينفتح ، فأرى ما بالداخل ...
على ذلك السرير تجلس رغد بدفاتر تلوينها ، منهمكة في التلوين ...
و حين تحس بدخولي ترفع رأسها و تبتسم و تهتف : وليــــــــد !
ثم تقفز من سريرها و تركض إلي ... فألتقطها بين ذراعي و أحملها عاليا !

" أين أنتم ؟ عودوا أرجوكم ... لا تتركوني وحيدا ... "

كنت أبكي بحرقة و مرارة و عيناي تجولان في أنحاء المنزل و أتخيل أهلي من حولي ... هنا و هناك ...
و أتوهم سماع أصواتهم ...
لقد رحلوا ... و تركوا المنزل خاليا و الأبواب مقفلة ... و وليد وحيدا تائها ...
هل تخلوا عني ؟؟
هل أصبحت في نظرهم ماض يجب نسيانه ؟
مجرما يجب إلغائه من الحسبان ؟؟
كيف يمتنعون عن زيارتي و السؤال عني كل هذه السنين ...
ثم يرحلون ...
أخرجت الصورتين اللتين احتفظ بهما منذ سنين من أحد جيوبي ... و جعلت أتأمل وجوه أهلي و أناديهم ... واحدا تلو الآخر كالمجنون ...
أبي ...
أمي ...
سامر ...
دانه ...
رغد ...
لقد عدت !
أين أنتم ؟؟
أجيبوا أرجوكم ...

سيف ظل واقفا يراقب عن بعد ...
كنت لا أزال جاثيا عند باب غرفة رغد غارقا في الحزن و البكاء المرير ... حين لمحت شيئا لم أكن لألمحه لو لم أجثو بهذا الوضع ...
من بين دموعي المشوشة للرؤية أبصرت شيئا تحت باب غرفتي
مددت أصابعي و أخرجته ببعض الصعوبة ، فإذا به قصاصة ورق صغيرة مثنية ، و حين فتحتها وجدت التالي :

( وليد ، لقد ذهبت مع أمي و أبي و دانة و سامر إلى المدينة الصناعية . عندما تعود تعال إلينا . أنا أنتظرك كما اتفقنا . رغد )

لكم أن تعذروا سيف للذهول الذي أصابه حين رآني أنهض واقفا فجأة ، و أطلق ضحكة قوية بين نهري الدموع الجاريين !

" وليد !! ماذا دهاك ؟؟ "

نظرت إليه و أنا أكاد أقفز فرحا و قلت :

" إنها رغد العزيزة تخبرني بأنهم في المدينة الصناعية ! هل رأيت شيئا كهذا ؟؟ "

و أخذت أحضن الورقة و الصور بجنون !

سيف قال :

" عقلية ... فذة ... أظن ذلك ! ! "

و ضحكنا من جديد .

و بعد يومين ، حين رتب سيف أموره للسفر ، انطلقنا أنا و هو بالسيارة ميممين وجهينا شطر المدينة الصناعية ...
لقد تكبلنا مشاقا لا حصر لها أثناء الطريق ، إذ أن الشوارع كانت مدمرة و اضطررنا لسلك طرق ملتوية و مطولة جدا ...
كما و أننا واجهنا عقبات مع الشرطة المحليين
إنني لمجرد رؤية شرطي ، ارتعش و أصاب بالذعر ... حتى و إن كان مجرد شرطي مرور ...
لن أطيل في وصف الرحلة ، لم يكن ذلك مهما ... فرأسي و قلبي و كلي ... مشغول بأهلي و أهلي فقط ...
و أولهم ... مدللتي الصغيرة الحبيبة ...
رغد ...
رغد ...
أنا قادم إليك أخيرا ...
قادم أخيرا ...

وصلنا للمدينة الصناعية مساء اليوم التالث ، و قد نال منا التعب ما نال
لذا فإن سيف أراد استئجار شقة نقضي فيها ليلتنا لنبدأ البحث في اليوم التالي ...

" ماذا ؟ لا أرجوك ! لا أستطيع الانتظار لحظة بعد ! "

تنهد سيف و قال :

" يا عزيزي دعنا نبات الليلة و غدا نذهب إلى بلدية المدينة و نسألهم عن أهلك ! أين تريدنا أن نبحث الآن ؟؟ نطرق أبواب المنازل واحدا بعد الآخر ؟؟ "

" أجل ! أنا مستعد لفعل ذلك ! "

ابتسم سيف ، ثم ربت على كتفي و قال :

" صبرت كثيرا ! اصبر ليلة أخرى بعد ! "

لم تمر علي ساعات أبطأ من هذه من قبل ...
لم أنم حتى لحظة واحدة و أصابني الإعياء الشديد و الصداع
و في اليوم التالي ، وقفنا عند إحدى محطات الوقود ، و ذهب سيف لشراء بعض الطعام و هممت باللحاق به ، لكنني شعرت بالتعب الشديد ...
عندما عاد سيف ، التفت نحوي مقدما بعض الطعام إلي :

" تفضل حصتك ! "

هززت رأسيا ممتنعا ، فأنا لا أشعر بأي رغبة في الطعام فيما أنا قد أكون على بعد قاب قوسين أو أدنى من أهلي ...
أسندت رأسي إلى المعقد و رفعت يدي إلى جبيني و ضغطت على رأسي محاولا طرد الصداع منه ...

" أ أنت بخير ؟؟ "

سألني سيف ، فأجبت :

" صداع شديد "

" خذ تناول بعض الطعام و إلا فإنك ستنهار ! "

و هززت رأسي مجددا ...
ثم التفت إليه و قلت :

" هل لي ببعض المال ؟؟ "

أخرج سيف محفظته من جيبه و دفعها إلي ... فأخذتها ، و فتحت الباب قاصدا النزول و الذهاب إلى البقالة المجاورة ...
ما كدت أقف على قدمي حتى انتابني دوار شديد فانهرت على المقعد ...

" وليد ! "

تركت رجلي متدليتين خارج السيارة و أنا عاجز عن رفعهما
سيف أسرع فعدّل من وضعي و سأل بقلق :

" أ أنت بخير ؟؟ "

" دوار ... "

أسرع سيف فقرب عبوة عصير من شفتي و قال :

" اشرب قليلا "

رشفت رشفتين أو ثلاث ، و اكتفيت . سيف كان قلقا و ظل يلح علي بتناول بعض الطعام ألا أنني لم أكن أشعر بأدنى رغبة حتى في شم رائحته ...
بعد قليل ، زال الدوار جزئيا و فتحت عيني ، و مددت بالمحفظة إلى سيف و قلت :

" هل لي بعلبة سجائر ؟ "

.....................


كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشر ليلا ، حينما أشار آخر شخص سألناه عن منزل شاكر جليل ، أبي وليد ، إلى منزل صغير يقع عند المنعطف التالي ...

سأل سيف الرجل :

" أ أنت متأكد ؟ شاكر جليل المكنى بأبي وليد ، رجل قدم مع عائلته من وسط البلاد ؟"

" نعم إنه هو و يقيم هنا منذ سبع أو ثمان سنين ! "

لم يكن الشيء الذي يهتز هو قلبي فقط ، بل و أطرافي ، و شعري ، و مقعدي بل و السيارة أيضا !
تبادلنا أنا و سيف النظرات ... ثم تحرك بالسيارة ببطء حتى أصبحنا إزاء المنزل مباشرة ...

" هيا يا وليد ... "

بقيت في مكاني و لم تخرج مني بادرة تشير إلى أنني أنوي النهوض

" وليد ! هيا بنا ! أم تفضل الانتظار حتى الغد فربما يكون الجميع نيام ! "

قلت بسرعة :

" لا لا ... مستحيل أن أنتظر دقيقة بعد ... "

و مع ذلك ، بقيت في مكاني بلا حراك ، عدا عن الاهتزازات التي تعرفون ...

" ما بك ؟ قلق ؟؟ "

" ماذا لو لم يكن المنزل المقصود أو العائلة المعنية ؟؟ هل نستمر في البحث أكثر ؟؟ أنا مجهد جدا "

" هوّن عليك ، ربما وصلنا أخيرا . سنتأكد من ذلك "

كيف لي أن أبقى صامدا قويا و أنا على وشك رؤية أهلي ... ؟؟
في داخل هذا المنزل ... يعيش أمي و أبي ... و أخي و أختي ... و الحبيبة رغد !
ربما هم نيام الآن !
لا بد أنهم سيفاجؤون لدى رؤيتي ....
كم أنا مشتاق إليكم جميعا ...
إن هي إلا لحظات ... و ألتقي بكم !
يا إلهي ! أكاد أموت من الشوق و القلق ...
أخرجت الصورتين من جيبي و أخذت أتأمل أفراد عائلتي ...
ثم ثبت ّ أنظاري على صورة رغد ، و هي تلون ...
رغد ...
يا حلوتي الصغيرة ...
ها أنا قد عدت ...

" دعك من الصورة ... و هيا إلى الأصل ! "

قال سيف و هو يفتح الباب و ينزل ...
قرعنا الجرس مرارا ... حتى خشيت أن يكون البيت قد هجر ... و أهلي قد رحلوا ... و أملي قد ضاع ...

و لكن الباب انفتح أخيرا ...

و أطل منه شاب يافع ... طويل القامة ... نحيل الجسم ... مشوّه الوجه بندبة أكدت لي بما لا يقبل الشك ... أنه شقيقي الوحيد ... سامر ....

" سامر ... يا أخي ! "

دخلت في دوامة لا أستطيع وصفها ... من الصراخ و الهتاف ... البكاء و النحيب ... الدموع و العناق ...

تلقفتني الأيدي و الأذرع و الأحضان ... و أمطرت بالقبل و امتزجت الدموع بالآهات و التهاليل بالولاول ... و ما عدت أدرك إن كان أهلي من حولي حقا ؟ أم أنني توهمت خروجهم من الصورة ...؟
لقد مضى وقت لا أعرف مقداره و أنا أدور بين أحضانهم في عناق تختلط فيه الدموع ...

والدتي لم تقو على الوقوف من هول المفاجأة فجلسنا جميعا قربها و استحوذت على رأسي و ضمته إلى صدرها و جعلنا نبكي بحرارة
و أبي جالس قربي يكرر حمد الله و شكره و يجهش بكاءا
و أخي سامر ممسكا بذراعي من جهة ، و دانة من جهة أخرى
و لم يعد هناك مجال للكلمات ...

لا أستطيع وصف المزيد
أنى لذاكرتي أن تستوعب حرارة كهذه دون أن تنصهر ؟؟
أطلقت والدتي سراح رأسي لبعض الوقت ... فالتفت نحو دانة
كم كبرت و أصبحت ... فتاة مختلفة !
فتحت فمي لأتكلم ، فإذا بالدموع الحارة تتسلل إلى داخله ...
و ربما هذا ما منح لساني القدرة على الحركة و النطق ...
لكن صوتي جاء مبحوحا خافتا ضعيفا ، كصوت طفل يختنق ...

" رغد ؟؟ "

هبت دانه واقفة ، و صعدت عتبات تلي المدخل عتبتين عتبتين ، و أسرعت الخطى ذاهبة لاستدعاء رغد
وقفت في قلق و وقف الجميع معي ، و هم لا يزالون يقتسمون حضني و ذراعي ...
كنت أنظر إلى الناحية التي ذهبت إليها دانه ... و لو لم أكن مربوطا بالجميع لذهبت خلفها ...
لا ...
بل لسبقتها ...
الآن ستظهر رغد !
هل نفذ الهواء الذي من حولي ؟؟ أنا اختنق ...
هل طلعت الشمس في غير موعدها ؟ إنني أحترق ...
هل تهتز الأرض من تحت رجلي ؟؟ أكاد أنهار ... لولا أنهم يمسكون بي ...

ستأتي رغد ... سأحضنها ... و أحملها على ذراعي ... و أؤرجحها في الهواء كما كنت أفعل دائما ...

هيا يا رغد ... اظهري ... تعالي ... أسرعي إلي ...

و من حيث كنت أحدّق بصبر نافذ تماما ، ظهرت مخلوقة جاءت تركض بسرعة ... و توقفت عند أعلى العتبات ....

كما توقفت هي ، توقف كل شيء كان يتحرك في هذا الكون فجأة ... بما فيهم قلبي المزلزل ...
توقفت عيني حتى عن سكب الدموع ، و عن الطرف ...
و تثبتت فوق عيني الفتاة الواقفة أعلى العتبات ... تنظر إلي بذهول ... فاغرة فاها

هل جرب أحدكم أن يوقف شريط الفيديو أثناء العرض ؟
هكذا توقف الكون عند هذه اللحظة التي ربما تجاوزت القرون طولا ...
وجها لوجه ... أمام مخلوقة يفترض أن تكون رغد ... و لم تكن رغد ...
كنت انتظر أن تظهر رغد ... تماما كما تركتها قبل ثمان سنين ... طفلة صغيرة أعشقها بجنون ... تركض نحوي بلهفة ... و ترفع يديها إلي بدلال ... و تقول :
وليـــد ... احملني !

لم أعد أرى جيدا ... أصبت بغشاوة من هول الصدمة المفاجئة ... و المشاعر المتلاطمة بعنف ...
أردت أن أخرج الصورة من جيبي ... و أسأل الجميع ... أهذه هي صغيرتي رغد ؟؟
لكنني بقيت جامدا متصلبا متخشبا كما أنا ...
أول شيء تحرك كان فم الفتاة ... ثم إصبعها الذي أشار نحوي ، و بصعوبة و بجهد و بحروف متقطعة قالت :

" و ... لـ ... يــ ... ــد ؟؟؟ "

ثم فجأة ، و دون أن تترك لي الفرصة لأستعد لذلك ، قفزت رغد من أعلى العتبات باندفاع نحوي فحررت ذراعي بسرعة من بين أذرع البقية و رفعتها نحو رغد التي هوت على صدري و هي تهتف

" وليـــــــــــــــــــــــــــــــــد "


الآن فقط ، آمنت تماما بحقيقة دوران الأرض حول نفسها ...
لقد كنت أنا المحور
و كانت الأشياء تدور من حولي بسرعة ...
بسرعة ...
بسرعة ...

كدنا نهوي أرضا لو لم يسرع أبي و سامر لإسنادنا لكنني لم أكن قادرا على الوقوف
أما رغد ...
صغيرتي التي كبرت ... فقد كانت ممسكة بي بقوة جعلتني أشعر أنها ستخترق جسدي
بل اخترقته ...
لثمان سنين فقط ، أريد لهذه اللحظة أن تستمر ...
لثمان سنين ، عادت بي الذاكرة ...
لذلك اليوم المشؤوم ...
لتلك اللحظة الفظيعة ، التي كانت فيها رغد متشبثة بي بذعر و تكاد تخترق جسدي ...
فيما عمّار واقف يبتسم ابتسامة خبيثة و هو يرمي إلي بحزام رغد ...
لحظة تذكرت هذا ، أطبقت على رغد بقوة و كأنني أريد حمايتها من مجرد الذكرى الأليمة
و شددت ضغطي أكثر و أكثر ... و لو كانت لجسدي قوته و عضلاته السابقة ، لربما سحقت عظامها بين ذراعي ...
إلا أنني الآن أشعر بضعف شديد يسري في جسدي ، و أريد أن أنهار

أبعدت رأسها عني قليلا لأتأكد ... أنها رغد ...
رغم أنها كبرت إلا أن ملامح وجهها الدائري الطفولية ، لا زالت كما هي ...

" رغد ! صغيرتي ! "

لقد عشت لأراك ثانية ...
و نجوت لأعود إليك ...

" آه "


أطلقت هذه الآهة ، ثم خررت أرضا ...
أعتقد أنني أصبت بإغمائه لبضع دقائق
عندما فتحت عيني ، رأيت وجوه الجميع من حولي فيما أدمعهم تنهمر و تبلل وجهي و ملابسي الغارقة في العرق ...
لم يكن لدي ما هو أغلى من دموع مدللتي رغد و حين رأيتها تسيل على خديها قلت

" لقد عدت ! لن أسمح لدموعك بأن تسيل بعد اليوم ! "

ثم نقلت بصري بين أعينهم جميعا ، و قلت :

" أنا متعب جدا "

و لحظتها فقط انتبهت لعدم وجود سيف ...
لا أذكر أنني رأيته بعد قرعنا للجرس ! هل عاد للسيارة ؟ أم ماذا حدث ؟

قلت :

" أين سيف ؟ "

أجاب سامر :

" غادر ... قال أنه سيأتي غدا "

و لأنني كنت متعبا جدا جدا ، فسرعان ما نمت بعدما أرخيت جسدي فوق سرير أخي سامر ، و الذي نام على الأرض إلى جواري في غرفته تلك الليلة ...

عندما أيقظني سامر وقت صلاة الفجر ، لم أكن قد نلت ما يكفي من الراحة... لذا لم أرافقه و أبي إلى المسجد ، بل أديت صلاتي في الغرفة ذاتها ...

أثناء غيابهما للصلاة ، تجولت في المنزل بحثا عن المطبخ فقد كنت شديد العطش و لم يكن البيت كبيرا لذا فإن غرفه و أجزائه متقاربة ...
وصلت إلى المطبخ و هناك رأيت شخصا يقف أمام الثلاجة المفتوحة ، موليا ظهره إلي ، و يرتدي حجابا ...

لم يكن من الصعب علي أن أستنتج أنها رغد ، من صغر حجمها

" رغد ؟ "

التفتت رغد نحوي بفزع ، إذ أنها لم تشعر بدخولي المطبخ ...

" أنا آسف ... هل أفزعتك ؟؟ "

أحنت رغد رأسها نحو الأرض و هزته قليلا ...

قلت :

" أريد بعض الماء ... رجاء ً "

رغد تنحت جانبا موسعة المجال أمامي ، و عندما اقتربت رفعت رأسها فنظرت إلي برهة ...

" لقد ... كبرت ِ ! "

لم تنطق بأي كلمة ، و نزلت ببصرها أرضا ...

قلت :

" لكنك لم تتغيري كثيرا ... "

رفعت رأسها مرة أخرى و نظرت إلي ، ثم طأطأته من جديد ...

قلت :

" و أنا ؟ هل تغيرت كثيرا ؟؟ "

ترددت قليلا ثم قالت :

" هل بدّلت أنفك ؟ "

ابتسمت ، بل كدت أضحك ، لكنني قلت :

" بدّله الزمن ! هل يبدو سيئا جدا ؟؟ "

رغد قالت دون أن ترفع بصرها عن الأرض :

" على العكس ! "

ثم أسرعت بالخروج من المطبخ ...

استدرت و ناديت :

" رغد انتظري ... "

ألا أنها اختفت بسرعة !
و بسرعة شربت كمية كبيرة من الماء البارد شعرت بها تجري في فمي و حلقي و معدتي و حتى شراييني !

عدت إلى فراشي و أغمضت عيني ...
إنه ليس مجرد حلم ...
لقد عدت إلى أهلي أخيرا
عدت إلى رغد ...
و حتى و أن كبرت و لم تعد صغيرتي المدللة ، فهي لا تزال محبوبتي التي أعشق منذ الصغر ...
و التي أفعل أي شيء في سبيل إسعادها
و التي لا زلت مشتاقا إليها أكثر من أي شخص آخر ...
و التي يجب أن أقربها مني أكثر من أي وقت مضى ...
فهي ...
صغيرتي الحبيبة المدللة ...
حلم حياتي الأول ...
محبوبتي منذ الطفولة ...
قد كبرت أخيرا ....











تستطيع أن تنشر الموضوع قي حسابك على  الفيس بوك وتويتر

التوقيع

.
.
.




ليس الوجع في أيام الفقد الأولى ، بل حين تأتي الأيام السعيدة
فتجد أنّ من يستطيع مشاركتك فرحتك بشكل أكبر و أعمق قد رحل ..!!










.
.

رد مع اقتباس
قديم 27-05-2009, 04:55 AM   #12
بيادر الحب
المراقب العــام
الصورة الرمزية بيادر الحب

المعلومات





آحدث المواضيع


الاتصال

بيادر الحب غير متصل

بيادر الحب تم تعطيل التقييم
افتراضي رد: [ أنت لي ] رواية جميلة للكاتبة / تمرحنا

الجزء الحادي عشر






أنا استفيق من النوم ، و أشعر بنعومة الوسادة تحت خدي ، و سمك و دفء البطانية فوق جسدي ، و النور يخترق جفني ...
بقيت مغمض العينين ...
حركت يدي فوق الفراش الدافئ الواسع ، و الوسادة الناعمة و أخذت أتحسسهما براحة و سعادة ...
ابتسمت ، و يدي لا تزال تسير فوق الفراش ، و البطانية ، و الوسادة مداعبة كل ما تلامس !
أخذت نفسا عميقا و أطلقته مع آهة ارتياح و رضا ...
كم كان النوم لذيذا ! و كم كنت أشعر بالكسل ! و الجوع أيضا !
آه ... ما أجمل العودة إلى البيت ... و الأهل ...
فتحت عيني ببطء ، و أنا مبتسم و مشرق الوجه
و على أي شيء وقعت أنظاري مباشرة ؟؟
على وجه أمي !
كانت والدتي تجلس على مقعد جواري ، و تنظر إلي ، و دمعة معلقة على خدها الأيمن ، فيما فمها يبتسم !
جلست بسرعة ، و قد اعتراني القلق المفاجئ و زالت الابتسامة و السعادة من وجهي ، و قلت باضطراب :

" أماه ! ماذا حدث ؟؟ "

والدتي أشارت بيدها إلي قاصدة أن أطمئن ، و قالت :

" لا لا شيء ، لا تقلق بني "

لكنني لم أزل قلقا ، فقلت مرة أخرى :

" ماذا حدث ؟؟ "

هزت أمي رأسها و مسحت دمعتها و زادت ابتسامتها و قالت :

" لا شيء وليد ، أردت فقط أن أروي عيني برؤيتك "

ثم انخرطت في البكاء ...
نهضت عن سريري و أقبلت ناحتها و قبلت رأسها و عانقتها بحرارة ...

" لقد عدت أخيرا ! لا شيء سيبعدني عنكم بعد الآن "




~ ~ ~ ~ ~ ~ ~





طبعا لم يستطع أحدنا النوم تلك الليلة ، غير وليد !
نام وليد في غرفة سامر ، إذ لم يكن لدينا أي سرير احتياطي أو غرفة أخرى مناسبة .
أنا لا أستطيع أن أصدق أن وليد قد عاد !
لقد آمنت بأنه اختفى للأبد
كنت اعتقد بأنه فضل العيش في الخارج حيث الأمان و السلام على العودة لبلدنا و الحرب و الدمار ...
لكنه عاد ... و بدا كالحلم !
لا يزال طويلا و عريضا ، لكنه نحيل !
كما أن أنفه قد تغير و أصبح جميلا !
البارحة لم أتمالك نفسي عندما رأيته أمام عيني ...
كم تجعلني هذه الذكرى أبتسم و أتورد خجلا !

" رغد ! كم من السنين ستقضين في تقليب البطاطا ! لقد أحرقتها ! "

انتبهت من شرودي الشديد ، على صوت دانة ، و حين التفت إليها رأيتها تراقبني من بعد ، و قد وضعت يديها على خصريها ...

ابتسمت و قلت :

" ها أنا أوشك على الانتهاء "

دانة حدقت بوجهي قليلا ثم قالت :

" لقد احمر وجهك من طول وقوفك قرب النار ! هيا انتشليها و انتهي ! "

أنا اشعر بأن خدي متوهجان ! و لكن ليس من حرارة النار !
انتهيت من قلي البطاطا ثم رتبتها في الأطباق الخاصة.
مائدتنا لهذا اليوم شملت العديد من الأطباق التي كان وليد يحبها
والدتي أصرت على إعدادها كلها ، و جعلتنا نعتكف في المطبخ منذ الصباح الباكر !
ربما كان هذا الأفضل فإن أحدنا لم يكن لينام من شدة الفرح ...
و الآن هي بالتأكيد في غرفة سامر !

" دانه "

كانت دانة تقطع الخضار لتعد السلطة ، و التفتت إلي بنفاذ صبر و قالت :

" نعم ؟؟ "

قلت :

" هل كان وليد يفضل عصير البرتقال أم الليمون ؟؟ "

رفعت دانة رأسها نحو السقف لتفكر ، ثم عادت ببصرها إلي و هزت رأسها أسفا :

" لا أذكر ! حضّري أيا منهما "

قلت :

" أريد تحضير العصير الذي يفضله ! تذكري يا دانة أرجوك "

رمقتني بنظرة غضب و قالت :

" أوه رغد قلت لك لا أذكر ! اسألي أمي "

وقفت أفكر لحظة ، و استحسنت الفكرة ، فذهبت مسرعة نحو غرفة سامر !
في طريقي إلى هناك صادفت والدي ...

" إلى أين ؟ "

استوقفني أبي ، فقلت بصوت منخفض :

" أريد التحدث مع أمي "

ابتسم أبي و قال :

" إنها عند وليد ! "

تقدمت خطوة أخرى باتجاه غرفة سامر ، إلا أن أبي استوقفني مرة أخرى

" رغد "

التفت إليه

" نعم أبي ؟؟ "

لم يتكلم ، لكنه رفع يده اليمنى و بإصبعه السبابة رسم دائرة في الهواء حول وجهه
و فهمت ماذا يقصد ...
انعطفت نحو غرفتي ، و ارتديت حجابا و رداءا ساترا ، ثم قدمت نحو غرفة سامر و طرقت الباب طرقا خفيفا ...
سمعت صوت أمي يقول :

" تفضل "

ففتحت الباب ببطء ، و أطللت برأسي على الداخل ... فجاءت نظراتي مباشرة فوق عيني وليد !
رجعت برأسي للوراء و اضطربت ! و بقيت واقفة في مكاني ...
أقبلت أمي ففتحت الباب

" رغد ! أهلا ... أهناك شيء ؟؟ "

قلت باضطراب :

" العصير ! أقصد الليمون أم البرتقال ؟ "

أمي طبعا نظرت إلي باستغراب و قالت :

" عفوا ؟!! "

كان باستطاعتي أن أرى وليد واقفا هناك عند النافذة المفتوحة ، لكني لا أعرف بأي اتجاه كان ينظر !

" هل أصنع عصير الليمون أم البرتقال ؟؟ "

ابتسمت والدتي و قالت :

" كما تشائين ! "

قلت :

" ماذا يفضل ؟؟ "

و لم أجرؤ على النطق باسمه !
والدتي التفتت نحو وليد ، و كذلك فعلت أنا ، فالتقت أنظارنا لوهلة ...

قالت أمي :

" ماذا تفضل أن تشرب اليوم ؟ عصير البرتقال أم الليمون ؟ أم كليهما ؟ "

ابتسم وليد و قال :

" البرتقال قطعا ! "

ثم التفتت والدتي إلي مبتسمة ، و قالت :

" هل بقي شيء بعد ؟ "

" لا ... تقريبا فرغنا من كل شيء ، بقي العصير ... و السلطة "

" عظيم ، أنا قادمة معك "

ثم استأذنت وليد ، و خرجت و أغلقت الباب .
و عندما ذهبنا للمطبخ ، وجدنا سامر هناك ، و كان قد عاد لتوه من الخارج حيث أحضر بعض الحاجيات ...
بادلانا بالتحية ثم سأل :

" ألم ينهض وليد ؟ "

قالت أمي :

" بلى ! استيقظ قبل قليل "

" عظيم ! أنا ذاهب إليه "

و ذهب سامر مسرعا ، فهبت دانة واقفة و رمت بالسكين و قطعة الخيار التي كانت بيدها جانبا و قالت بانفعال :

" و أنا كذلك "

و لحقت به و هي تقول موجهة كلامها إلي :

" أتمي تحضير السلطة ! "

و في ثوان كانا قد اختفيا ...

ماذا عني أنا ؟؟
أنا أيضا أريد أن أذهب إليه .... !
نظرت إلى أمي فقالت :

" أنا سأقطع الخضار ، حضري أنت العصير ...




~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~





قبل قليل ، جاءت رغد و وقفت عند باب الغرفة لعدة ثوان ...
أظن أنها جاءت تسال والدتي عن عصيري المفضل !
يبدو أنها نسيت ذلك ... لطالما كنت آخذها معي إلى في نزهة بالسيارة ، نتوقف خلالها لتناول البوضا أو عصير البرتقال ، أو حتى أصابع البطاطا المقلية !
يا ترى ... ألا تزال تحبها كما في السابق ؟؟
طرق الباب ، ثم دخل أخي سامر و دانة ...
أقبل الاثنان نحوي يحييانني و يعانقانني من جديد ...

قال سامر :

" أحضرت لك بعض الملابس يا أخي ! إنك بحاجة إلى حمام طويل جدا ! "

ابتسمت بشيء من الخجل ، فأنا أعرف أن هندامي كان سيئا ... و شعري طويلا ... و لحيتي نابتة عشوائيا بلا نظام ، و الملابس التي اشتراها لي سيف على عجل خالية من الجمال و الأناقة !

قلت :

" هل أبدو مزريا ؟؟ "

ضحكت دانة و قالت :

" بل تبدو كأحد نجوم السينيما الأبطال ! "

ضحكنا نحن الثلاثة ، ثم قلت :

" بطل بلا عضلات !؟ لا أناسب حتى لدور مجرم ! "

و جفلت للكلمة التي خرجت من لساني دون شعور ... ( مجرم ) ... ألست كذلك ؟؟
لكن أحدا لم يلحظ تغير تعابير وجهي ، بل استمرت دانة تقول :

" بل بطل ! أليس كذلك يا سامر ؟ إنه ليس رأيي وحدي بل هذا ما تقوله رغد أيضا ! "

أثارت جملتها هذه اهتمامي البالغ ، هل قالت رغد عني ذلك حقا ؟ هل أبدو كذلك في نظرها ؟
تعلمون كم يهمني معرفة ذلك !
لقد كانت تعتبرني شيئا كبيرا عاليا في الماضي ، و الآن بعدما كبرت ... ترى ماذا أصبحت أعني لها ؟؟
فيما بعد ، نعمت باستحمام طويل و مركز !
نظفت جسدي و ذاكرتي من كل ما علق بهما من أيام السجن ... و بلاء السجن ...
بدوت بعدها ( شخصا محترما ) ، إنسانا مكرما ... رجلا يستحق الاهتمام ....

حينما حضر سامر للغرفة بعد ذلك ، أطلق صفرة حادة مداعبا !

" ما كل هذه الوسامة يا رجل ! بالفعل كأبطال السينيما ! "

ابتسمت ، ثم قلت :

" يجب أن تصحبني إلى الحلاق اليوم لأقص شعري ! "

قال :

" أبقه هكذا يا رجل ! تبدو جذابا به ! "

ضحكنا كثيرا ، ثم خرجت معه من الغرفة فإذا بي أرى أمي و أبي يقفان في الردهة ...
ابتسما لرؤيتي ، و تبادلنا حديثا قصيرا ، ثم ذهبنا أنا و أبي و سامر لتأدية صلاة الظهر في المسجد .
عندما عدنا ، و ما أن وطأت قدمي أرض مدخل المنزل ، حتى هاجمت أنفي روائح أطعمة شهية جدا !
أخذت نفسا عميقا متلذذا بالرائحة الرائعة !
ظهرت أمي ، و قادتنا إلى غرفة المائدة ...
و ذهلت للأطباق الكثيرة التي ملأت المائدة عن آخرها ...

" أوه ! كل هذا !؟ "

نظرت إلى أمي بتعجب ، فابتسمت و قالت :

" تفضل بني بالهناء و العافية "

لا أخفيكم أن معدتي كانت تستصرخ !
انقبضت مصدرة نداء استغاثة ، ثم توسعت أقصى ما أمكنها استعدادا للكميات الكبيرة التي أنوي التهامها !

في هذه اللحظة تذكرت صديقي سيف ، قلت :

" سيف ! يجب أن اتصل بسيف ! "

و ذهبت إلى حيث يجلس الهاتف بسكون ، و اتصلت به في الشقة حيث كنا
اعتذر سيف عن الحضور و قال أنه لا يود التسبب بأي حرج على أفراد العائلة في هذا الوقت ، لكنه وعد بالحضور مساء ...
اتخذت مجلسي حول المائدة ، على يمين والدتي ... ، فيما سامر إلى يسار والدي . و أخيرا أقبلت الفتاتان ، دانة و رغد ... فجلست دانة إلي يمين والدي ، و بقي الكرسي الأخير ... المقابل لي شاغرا ...
أقبلت رغد فجلست مقابلي على ذلك الكرسي ، و اتضح لي فيما بعد أنني جلست على الكرسي الذي تجلس هي عليه في العادة !
كانت ترتدي رداءا طويلا ، و حجابا .
لا أخفيكم أنني كنت أشعر بشيء كلسعة الكهرباء كلما التقت نظراتنا عفويا
إنها صغيرتي رغد !
محبوبتي المدللة التي حرمت من رؤيتها و العناية بها لثمان سنين ...
تعرفون ما تعني لي ...
و قد كبرت و لم يعد بإمكاني مداعبتها كالسابق ...
إنني أريد أن أطعمها هذه البطاطا المقلية بيدي !
إنني أشعر بأنها تراقبني !
ليست هي فقط ... بل الجميع يراقبني
إنني رغم شهيتي العظمي للطعام تصرفت بلباقة و تهذيب ، و أكلت بنفس السرعة التي بها يأكلون ....
و لكن لوقت أطول ... و لكميات أكبر !
ما أشهى أطباق أمي !
كل شيء يبدو لذيذا جدا ... حتى الماء ...
لم أذق للماء طعما منذ ثمان سنين ...
و هل للماء طعم ؟؟
أنا أعتبر نفسي دخلت الجنة بخروجي من ذلك الجحيم ... السجن ...
الحمد لله ...

أمور كثيرة قد تحدثنا عنها إلا أن السجن لم يكن من ضمنها مطلقا
كما و أنني لم أكن مقبلا على الحديث ، بل الاستماع ... و علمت عن أشياء كثيرة و تطورات جديدة حدثت في البلاد و الحياة خلال سنوات غيابي .
و كانت رغد أقلنا حديثا ، بل إنها بالكاد تنطق بكلمة أو كلمتين من حين لآخر
كنت أريد أن أتحدث معها ...
أسألها عما عملت في غيابي ...
أمسك بيديها ...
أمسح على شعرها ...
أضمها إلي ...
كما كنت أفعل سابقا ... فهي طفلتي التي اشتقت لها كثيرا جدا جدا ... أكثر من شوقي لأي شخص آخر ...
لست بحاجة لوصف المزيد فأنتم تعرفون ...
لكنها الآن أمامي فتاة بالغة ترتدي الحجاب ... لا أجرؤ حتى على إطالة النظر إليها أكثر من بضع ثوان ...
هل تتصورون كيف هو شعوري الآن ؟؟
لقد قضيت ثمان سنوات من العذاب... تغير في الدنيا خلالها ما تغير ، إلا أن حبي لهذه الفتاة لم يتغير ... و إن لم أعد الماضي الجميل و علاقتي الرائعة بها فسوف أصاب بالجنون !

قلت ، في محاولة مستميتة لإحياء الماضي الميت و إشعارها و إشعار نفسي بأن شيئا لم يتغير :

" رغد ... صغيرتي ... إلى أين وصلت في الدراسة ؟ "

رغد رفعت بصرها إلي في خجل ، و قد تورد خداها ، و قالت :

" أنهيت الثانوية ! و سوف ألتحق بإحدى الكليات العام المقبل "

ابتسمت بسعادة ! فطفلتي الصغيرة ستدخل الجامعة !

" عظيم ! مدهش ! أبهجتني معرفة ذلك ! وفقك الله "

ابتسمت رغد بخجل شديد ، ثم قالت :

" و أنت ؟ هل أنهيت دراستك أم لا زال هناك المزيد بعد ؟؟ "

تصلبت تماما لدى سماعي هذا السؤال ...
و نقلت بصري إلى أمي ... أبي ... سامر ... و دانة ...
و علامات الذهول صارخة في وجهي ...

أبى قال مرتبكا :

" يكفي لحد الآن ! هل تظنين أننا سنتركه يغادر ثانية ! مستحيل "

نظرت إلى أمي و سامر ، فإذا بهما يتحاشيان النظر إلي ...
أما دانة فكانت مشغولة بتقطيع الطعام و مضغه ...
و رغد ، حين عدت ببصري إليها وجدتها تبتسم ...
شعرت باستياء كبير لهذه الحقيقة التي فاجؤوني بها ...
لم يبد على رغد أنها تعلم ... أنني كنت في السجن !
هل أخبروها بأنني سافرت لأدرس ؟؟
ألم أطلب أنا منهم ذلك ؟
ألا يزالون محتفظين بالسر ؟؟

انزعجت كثيرا لاستنتاج ذلك ، و فقدت شهيتي لتناول المزيد ...
لكنني شربت حصتي من عصير البرتقال كاملة ، لعلمي المسبق بأن رغد هي التي حضرته ...
بعد الغذاء ذهبت مع أهلي في جولة داخل المنزل لأتعرف على أجزائه ، و كان موضوع جهل رغد بأمر سجني يسيطر على تفكيري ... و يتعسني ...

و انتهزت أول فرصة سنحت لي فسألت والدي :

" ألا تعلم رغد بأنني ... كنت في السجن ؟؟ "

والدي تردد قليلا ثم أجاب :

" لم يكن بإمكاننا إخبارها بشيء كهذا ذلك الوقت ... ثم كبرت ... و دانة ... و لم نجد داعيا لإعلامهما بالحقيقة "

غضبت كثيرا من هذا التصرف ، فأنا الآن وضعت في وجه المدفع ... لا أعرف كيف ستتصرف رغد حين تعلم بالأمر ... و لا حتى دانة ...

الاستياء كان واضحا على وجهي ، فقال أبي :

" هون عليك يا وليد ... نتحدث عن ذلك فيما بعد "

كان الأمر شديد الأهمية بالنسبة لي ...
في المساء ، كنت أشاهد التلفاز مع والدي و والدتي في غرفة المعيشة ، ثم أردت الاتصال بصديقي سيف لأؤكد عليه الحضور
لم أشأ استخدام الهاتف الذي يقع فوق التلفاز مباشرة لذلك خرجت من غرفة المعيشة و توجهت نحو المطبخ ... و هو الأقرب إلى الغرفة ..
لقد كان الباب مغلقا ، لذا طرقته أولا ...

فتح الباب قليلا و ظهرت دانة

" أهلا وليد! أتريد شيئا ؟؟ "

" أردت استخدام الهاتف "

ابتسمت دانة و قالت :

" اذهب إلى غرفة المعيشة أو الضيوف !"

استغربت ، فقلت :

" هاتف المطبخ لا يعمل ؟ "

ابتسمت مجددا و قالت :

" بلى ! لكن رغد بالداخل ! "

شيء أثار جنوني ... فقبضت يدي بقوة ... و قهر
بعد أن كانت رفيقتي أينما ذهبت ، أصبحت ممنوعا من الدخول إلى حيث توجد هي ...
لن يستمر الوضع هكذا لأنني سأجن حتما ...
لسوف أتحدث مع أبي بهذا الشأن في أقرب فرصة ... لا ... بل الآن !
و استدرت قاصدا غرفة الضيوف إلا أنني وقفت فجأة و بذهول ... حين رأيت باب المطبخ يتحرك ، و يفتح ، و يخرج سامر منه !
خرج سامر مبتسما و أغلق الباب ، و بقيت محملقا فيه بذهول ...

سامر نظر إلي و ابتسم و قال :

" غرفة الضيوف من هنا "

أنا بقيت واقفا مصعوقا ... و أخيرا تحرك لساني المعقود فقلت :

" رغد ... بالداخل ؟؟ "

أجاب مبتسما :

" نعم ! ... لم تجلب الحجاب معها "

جننت ، و لم أعد قادرا على فهم شيء أو تصور شيء !
ببلاهة و اضطراب و تشتت فكر قلت ، و أنا أشير بإصبعي إلى سامر :

" لكن ... أنت ... ؟؟؟ "

سامر رفع حاجبيه و فغر فاه بابتسامة استنتاج ، كمن فهم و أدرك لتوه أمرا لم ينتبه له من قبل ...

" آه ! تقصد أنا ... ؟؟ نعم ... فـ... نحن ... "

و ضحك ضحكة خفيفة ، ثم أتم الجملة التي قضت على آخر آخر ما كان في ّ من بقايا فتات وليد :

" نحن ... مخطوبان ! "










التوقيع

.
.
.




ليس الوجع في أيام الفقد الأولى ، بل حين تأتي الأيام السعيدة
فتجد أنّ من يستطيع مشاركتك فرحتك بشكل أكبر و أعمق قد رحل ..!!










.
.

رد مع اقتباس
قديم 27-05-2009, 04:59 AM   #13
بيادر الحب
المراقب العــام
الصورة الرمزية بيادر الحب

المعلومات





آحدث المواضيع


الاتصال

بيادر الحب غير متصل

بيادر الحب تم تعطيل التقييم
افتراضي رد: [ أنت لي ] رواية جميلة للكاتبة / تمرحنا

الجزء الثاني عشر




لقد قضيت اليوم بكامله في المطبخ !
فبعد وجبة الغذاء العظيمة التي أعددناها صباحا ، الآن نعد وجبة عشاء من أجل وليد و صديقه الذي سيتناول العشاء في منزلنا .
إنني أشعر بالتعب و أريد أن أنام ! لكن دانة لي بالمرصاد ، و كلما استرخيت قليلا طاردتني بقول :

" أسرعي يا رغد ! الوقت يداهمنا ! "

كان سامر يساعدنا و لكنه خرج قبل لحظة ، و الآن أستطيع أن أتحدث عن وليد دون حرج !!

" أخبريني يا دانة ، ما هو التخصص الذي درسه وليد ؟؟ "

دانة منهمكة في صف الفطائر في الصينية قبل أن تزج بها داخل الفرن ...

قالت :

" أعتقد الإدارة و الاقتصاد ! "

صمت قليلا ثم قلت :

" و أي غرفة سنعد له ؟ أظنها غرفة الضيوف ! فالبيت صغير ... ألا توافقينني ؟ "

قالت :

" بلى "

انتظرت بضع ثوان ثم عدت أسأل :

" ألا يبدو أنه قد نحل كثيرا ؟ ألم يكن أضخم في السابق ؟ "

قالت :

" بلى ... كثيرا جدا ! لابد أنه لم يكن يأكل جيدا هناك "

قلت :

" أ رأيت كيف التهم البطاطا التي أعددها كلها ؟ لابد أنها أعجبته ! "

التفتت دانة إلي ببطء و قالت :

" و كذلك أكل السلطة التي أعددتها ، و الحساء الذي أعدته أمي ، و الدجاج و الرز و العصير و كل شيء ! بربك ! هل تعتقدين أن طبقك المقلي هذا هو طبق مميز ! "

قلت مستاءة :

" أنت دائما هكذا ! لا يعجبك شيء أصنعه أنا "

انصرفت دانة عني لتضع صينية الفطائر داخل الفرن ، و ما أن فرغت حتى بادرتها بالسؤال :

" ألا يبدو أقرب شبها من أبي ؟ فأنت و سامر تشبهان أمي ! "

قالت :

" لا أعرف ! "

ثم التفتت إلي و قالت :

" و أنت ِ !؟ من تشبهين ؟؟ "

صمت قليلا ، ثم قلت :

" ربما أمي المتوفاة ! "

لكنها قالت :

" لا ! تشبهين بل شخصا آخر ! "

سألت باهتمام :

" من ؟؟ "

ابتسمت بخبث و قالت :

" الببغاء ! فأنت ثرثارة جدا ! "

رميت بقطعة من العجين ناحيتها فأصابت أنفها ، فأطلقتُ ضحكة كبيرة !
أما هي فقد اشتعلت غضبا و أقبلت نحوي متأبطة شرا !
تركت كرة العجين التي كنت ألتها من يدي و ذهبت أركض مبتعدة و هي تلاحقني حتى اقتربت من الباب و كدت أفتحه

" انتظري ! وليد بالخارج "

أوقفت يدي قبل أن تدير المقبض و التفت إليها و قلت :

" صحيح ؟؟ "

قالت :

" نعم فهو من طرق الباب قبل لحظة ، دعيني أستوثق من انصرافه أولا "

تنحيت جانبا ، منتظرة منها أن تفتح الباب ، فأقبلت نحوي و على حين غرة ، و بشكل مفاجئ ، ألصقت قطعة العجين على أنفي و ضحكت بقوة و ركضت مبتعدة قبل أن أتمكن من الفرار منها !
أنا فتحت الباب بسرعة لأهرب لكن بعد فوات الأوان !
و تخيلوا من لمحت في الثانية التي فتحت الباب فيها ثم أغلقته بسرعة ؟؟
لقد كان وليد !
كم شعرت بالإحراج و الخجل و ابتعدت عن الباب في اضطراب
لا بد أنه رآني هكذا ... و قطعة العجين ملتصقة بأنفي ! أوه يا للموقف المخجل !
نزعت العجين و رميت به نحو دانة و أنا أقول :

" لماذا تقولي لي أن وليد خلف الباب ؟؟ "

رفعت دانة حاجبيها و قالت :

" بلى قلت لك ! "

" ظننتك تمزحين للإيقاع بي ! لقد رآني هكذا ! "

دانة ابتسمت ابتسامة صغيرة ، ثم قالت :

" أنت و وليد مشكلة الآن ! يجب ألا تغادري غرفتك بعد اليوم ! "

قلت :

" شكرا لك ! إذن أتمي تحضير الفطائر و أنا سأذهب للنوم ! "

في هذه اللحظة فتح الباب فدخل سامر ...

نظر مباشرة إلي و قال :

" ذهب إلى غرفة الضيوف ، إن كنت تودين الخروج "

نظرت إلى دانة ثم إلى سامر ، و الحمرة تعلو خدّيّ و قلت بمكر :

" نعم سأذهب ! "

و انطلقت مسرعة نحو غرفتي ...

غير آبهة بنداءات دانة المتكررة !
بعد أن غسلت وجهي و يدي في الحمام المشترك بين غرفتي و غرفة دانة توجهت نحو سريري و استلقيت باسترخاء
كم كنت متعبة !
إنني لم أنم البارحة كما ينبغي و عملت كثيرا في المطبخ
و للعلم ، فإن العمل في المطبخ ليس أحد هواياتي ، فأنا لا أهوى غير الرسم ، لكنني أردت المساعدة ...
تقلبت على سريري يمينا و يسارا و أنا أفكر ...
ما الذي سيقوله وليد عني !؟
فالفتيات البالغات لا يغطين أنوفهن بقطع العجين !
إلا إذا كانت طريقة جديدة لترطيب البشرة و تغذيتها !
شعرت بالدماء تصعد إلى وجهي بغزارة ... لابد أن وجهي توهج الآن ... لم لا ألقي نظرة !
قفزت من السرير و أسرعت نحو المرآة ... و رأيت حمرة قلما أرى لها مثيلا على وجهي هذا !
أبدو جميلة ! و لابد أنني مع بعض الألوان سأغدو لوحة رائعة !
نزلت ببصري للأسفل و فتحت أحد الأدراج ، قاصدة استخراج علبة الماكياج بفكرة جنونية لتلوين وجهي هذه اللحظة !
الشيء الذي وقعت عليه يدي بمجرد أن أدخلتها داخل الدرج كان جسما معدنيا باردا .. أمسكت به و أخرجته دون أن أنظر إليه ثم رفعت به نحو عيني ّ مباشرة ...
إنها ساعة وليد ...
نسيت فكرتي السخيفة بوضع المساحيق ، و عدت حاملة الساعة إلى سريري و استلقيت ببطء
الآن .. الفكرة التي تراودني هي إعادة هذه الساعة لوليد ...
لابد أنه سيفاجأ حين يراها ... و يعرف أنني ظللت محتفظة بها و أرتديها أيضا خلال السنوات الماضية !
قمت فجأة عن سريري و ارتديت ردائي و حجابي و طرت مسرعة للخارج
دعوني أخبركم بأنني قلما أفكر في الشيء مرتين قبل أن أقدم عليه !

لقد أخبرني سامر أنه في غرفة الضيوف و مع ذلك مررت بغرفة سامر ، ثم غرفة المعيشة ، و بالطبع تجنبت المطبخ ، قبل أن أذهب إلى غرفة الضيوف حاملة ساعة وليد بيدي ...
حين وصلت عند الباب ، و كان مفتوحا ، استطعت أن أرى من بالداخل ، و لم يكن هناك أحد غيره ...
وليد كان جالسا على أحد المقاعد ، بالتحديد المقعد المجاور للمنضدة التي تحمل الهاتف و قد كان مثنيا جدعه للأمام و مسندا رأسه إلى يديه ، و مرفقيه إلى ركبتيه في وضع يشعر الناظر بأنه ... حزين
طرقت الباب طرقا خفيفا ، ألا أنه لم يسمعه
فأعدت الطرق بشكل أقوى و أقوى ، حتى رفع رأسه ببطء و نظر إلي ...
و ما أن التقت أنظارنا حتى علت وجهه تعابير غريبة و مخيفة ...
بدت عيناه حمراوين و جاحظتين و مفتوحتين لحد تكادان معه أن تخرجا من رأسه !
و لمحت زخات العرق تقطر من جبينه العريض
حملق وليد بي بشدة أثارت خوفي ... فرجعت خطوة للوراء ... و حالما فعلت ذلك وقف هو فجأة كمن لدغته أفعى !
أنا ازدردت ريقي بفزع ثم حاولت النطق فجاءت كلماتي متلعثمة :

" كنت ... أعني ... لدي شيء أود إعطائك إياه ... "

وليد ظل واقفا في مكانه كالجبل يحدّق بي بحدّة ... ربما أزعجه أن أحضر بمفردي ... أو ربما ... ربما ...

لم أستطع حتى إتمام أفكاري المبعثرة لأنه تقدم خطوة ، ثم خطوة ، تلو خطو باتجاهي
لقد كنت أمسك بالساعة في يدي اليمنى ، و لا شعوريا تحركت يدي للخلف و اختبأت بالساعة خلف ظهري ...
لا أظن أن وليد رآها و لكن ...
حين صار أمامي مباشرة ، مد يده بسرعة و انقض على يدي اليمنى و سحبها للأمام بعنف
ارتعدت أطرافي و جفلت !
وليد قرّب يدي من عينه و أخذ يحدق بها بنظرات مخيفة و قاسية ، فيما يشد بقبضته عليها حتى يكاد يهشم عظامها ...

نطق لساني بفزع و اضطراب :

" أنا ... لم ... كنت ... سأعيدها إليك ! "

وليد ظل قابضا على يدي بقوة ، و يحدّق في عيني بنظرات تكاد تخترق عيني و رأسي و الجدار الذي خلفي ...

في تلك العيون الحمراء القادحة بالشرر ... رأيت قطرات الدموع تتجمع ... ثم تفيض ... ثم تنسكب ... ثم تشق طريقها على الخد العابس ... ثم تنتهي عند الفك المنقبض ...

لقد تهت في بحر هذه العيون و غرقت في أعماقها ...

أخذتني إلى ذكرى قديمة موجعة ... حاولت جهدي أن ألغيها من ذاكرتي ... فرأيت وليد و هو يبكي بمرارة و شدة ذلك اليوم و هو جاث ٍ فوق الرمال قرب السيارة ..
يمد يده إلي و يقول :

" تعالي يا رغد "

" وليد ... "

نطقت باسمه فإذا به يغمض عينيه بقوة و يعض على أسنانه بشدة .. و يشدد قبضته على يدي و يؤلمني ...

بعدما فتح عينيه ، ظل يحدق في يدي قليلا ، ثم فجأة انتزع الساعة من بين أصابعي و رمى بها نحو الجدار و زمجر بقوة :

" انصرفي "

أنا انتفضت بذعر ... و ارتجفت جميع أطرافي ... فتحركت خطوة للوراء ... ثم انطلقت بأقصى ما أمكنني ... و بأوسع خطى ... و ذهبت إلى غرفتي ... فدخلت و أغلقت الباب بل و أوصدته مرتين ، ثم تهالكت على سريري ...

كان قلبي ينبض بسرعة عجيبة و أنفاسي تعصف رئتي بقوة ... و أنظر إلى يدي فأراها ترتعش ... فيما تشع احمرارا أثر قبضة وليد القوية عليها ...

بعدما هدأت قليلا اقتربت من المرآة فهالني المظهر الذي كساني
أصبحت مرعبة !
ألم أكن جميلة قبل قليل ؟؟
لا أعرف لماذا فعل وليد ذلك ...
هل غضب لأنني ظهرت من المطبخ و العجين يغطي أنفي ، فبدوت كطفلة غبية ؟؟
أم لأنني لم أكن ارتدي الحجاب وقتها ؟؟
أم ماذا ؟؟

و جعلت الأفكار تلعب في رأسي حتى أتعبته ...
الساعة !
لقد حطّمها !
لقد احتفظت بها كل هذه السنين لأعيدها إليه ... لماذا فعل ذلك ؟؟ لماذا ؟؟

شعرت بشيء يسيل على خدي رغما عني
بكيت من الذعر و الخوف ... و الحيرة و الدهشة ...
لا أعرف كيف سيكون لقاؤنا التالي ...
لم يعد هذا وليد !
وليد لم يكن يصرخ في وجهي و يقول :

" انصرفي "

كان دائما يبتسم و يقول :

" تعالي يا رغد !! "




~ ~ ~ ~ ~ ~ ~





رميت بجسدي المثقل بالهموم على أقرب مقعد للباب .. و أطلقت العنان لشلالات الدموع لأن تعبر عن قسوتها بالقدر الذي تشاء

لم يكن أمامي شيء يرى ... أو يسمع .. أو يثير أي اهتمام
لا شيء يستحق أن أعيش لأجله ... بعدما فقدت أهم شيء عشت على أمل العودة إليه حتى هذه اللحظة
رفعت رأسي إلى السقف و أردت لأنظاري أن تخترقه و تنطلق نحو السماء ...

يا رب ...

لقد كانت لدي أحلامي و طموحي منذ الصغر ...
و أمور ثلاثة كانت تشغل تفكيري أكثر من أي شيء آخر ...
الحرب ، و ها قد قامت و تدمر ما تدمر ، و لم يعد يجدي القلق بشأن قيامها
الدراسة ، و ها قد انتهت و ضاعت ... و قضيت أهم سنوات عمري في السجن بدلا من الجامعة ... و انتهى كل شيء و لم يعد يقلقني التفكير فيه ...
و رغد ...
رغد ..
أول و آخر و أهم أحلامي ...
رغد الحبيبة ... مدللتي التي رعيتها منذ الصغر ...
و راقبتها و هي تنمو و تكبر ...
يوما بعد يوم ...
و قتلت عمار انتقاما لها ...
و قضيت أسوأ و أفظع سنوات حياتي حتى الآن ... في السجن
منفيا مبعدا مهجورا معزولا عن الأهل و الدنيا و الحياة ... و نور الشمس ...
و ذقت الأمرين ... و سهرت الليالي و أنا أتأمل صورتها و أعيش على الأمل الأخير لي ... بالعودة إليها و لو بعد سنين ...
أعود فأراها مخطوبة لغيري !
و من ؟؟
لشقيقي ..؟؟
يا رب
رحمتك بي
فانا لست حملا لكل هذا
و لم يعد بي ذرة من القوة و الاحتمال ...

كنت أبكي بحرقة و لا أشعر بشيء من حولي ، حتى أحسست بيد تمسك برأسي و تأخذني إلى حضن لطالما حننت إليه ...

" ولدي يا عزيزي ما بك ؟ لماذا تبكي يا مهجة فؤادي ؟"

و أجهشت أمي بكاءا و هي تراني أبكي بحرارة

حاولت أن أتوقف لكنني لم استطع ...
لقد تلقيت صدمة لا يمكن لقلب بشر أن يتحملها ...
رغد !؟
رغد صغيرتي أنا ... أصبحت زوجة لأخي ؟؟
إن الأرض تهتز من حولي و جسدي يشتعل نارا و تكاد دموعي تتبخر من شدة الحرارة ...

لم أجد في جسدي أي قوة حتى لرفع ذراعي و تطويق أمي ... بكيت في حضنها كطفل ضعيف هزيل جريح ... لا يملك من الأمر شيئا ...

بعد فترة من الزمن لا أستطيع تحديدها ، حضر والدي و حالما رآنا أنا و أمي على هذا الوضع قال :

" يكفي يا أم وليد ... دعي ابننا يلتقط أنفاسه أما اكتفيت ؟؟ "

والدتي أخذت تحدق بي بين طوفان الدموع ...
قلت بلا حول و لا قوة و بصوت أقرب إلى النحيب منه إلى الكلام :

" أنا متعب ... متعب جدا ... لقد انتهيت ... انتهيت ... "

و بعد حصة البكاء هذه صعدا بي إلى غرفة سامر ، و جعلاني أضطجع على السرير و هما يقولان :

" ارتح يا بني ... نم لبعض الوقت "

ثم غادرا ...

و أنا مضطجع على الفراش و وجهي ملتف ٌ نحو اليمين ... و دموعي لا تزال تنهمر و تغرق الوسادة ، وقع ناظري على الهاتف ...
مددت يدي و أخذته و استرجعت بصعوبة رقم هاتف الشقة التي يقيم سيف بها و اتصلت به

" يجب أن تحضر الليلة "







بعدها ... جاء سامر يخبرني بأن سيف قد حضر ...
كان سامر يبتسم ، و إن بدت من نظراته علامات القلق ... خصوصا و هو يرى الوجوم الغريب على وجهي الذي كان مشرقا طوال النهار
ذهبت معه إلى حيث كان سيف و والدي يجلسان و يتبادلان الأحاديث ...
لابد أن الجميع قد لاحظ شرودي ... و عدم إقبالي على الطعام ، على عكس وجبة الغذاء التي التهمت حصتي منها كاملة تقريبا

" ما بك لا تأكل يا وليد ؟ كُلْ حتى تسترد الأرطال التي فقدتها من جسمك ! "

أجبت ببرود و بلادة :

" اكتفيت "

و بعد العشاء جلسنا في غرفة الضيوف نشرب الشاي ، و كانوا هم الثلاثة ، أبي و سامر و سيف ، في قمة السعادة و يتبادلون الأحاديث و الضحك ...
أما تفكيري أن فكان متوقفا و جامدا عند اللحظة التي قال فيها آخي :

( نحن مخطوبان )

بعد ساعة ، استأذن سيف للانصراف و أخذ يصافح الجميع و حين أقبل نحوي قلت :

" سأذهب معك "

أبي و سامر تبادلا النظرات ثم حدقا بي ، كما يفعل سيف ... و قالا سوية و باستغراب :

" ماذا ؟؟ "

و أنا لا أزال ممسكا بيد سيف و ناظرا إليه أجبت :

" إذ لا سرير لي هنا ... "

و توقفت قليلا ثم تابعت :

" و لا أريد ترك صديقي وحيدا "

كان سيف يعتزم السفر بعد يوم آخر ، لينال قسطا أوفر من الراحة بعد مشقة الرحلة الطويلة التي قطعناها ...
و انتهى الأمر بأن خرجت معه دون أن أودع غير والدي ، و سامر ...

في السيارة بعد ذلك ، فتحت الخزانة الأمامية و استخرجت علبة السجائر التي كنت قد دسستها بداخلها أثناء تجوالنا
و فتحت النافذة ، ثم أشعلت السيجارة و التفت إلى سيف و قلت :

" أتسمح بأن أدخن ؟؟ "

صديقي سيف لم يكن من المدخنين ، أومأ برأسه إيجابا و فتح نافذته ، و انطلق بالسيارة ...

بقيت صامتا شاردا طوال المشوار ، و لم يحاول سيف خلخلة صمتي بأي كلام
بعد فترة ، و نحن نقف عند الإشارة الأخيرة قبل المبنى حيث نسكن ، و فيما أنا في شرودي و دهليز أفكاري اللانهائي ، قال سيف :

" متى بدأت تدخن ؟؟ "

لم أجبه مباشرة ، ليس لأنني لم أسمعه أو أستوعب سؤاله ، بل لأن لساني لم يكن يدخر أي كلام ...

" السجن يعلّم الكثير ... "

قلت ذلك و ابتسمت ابتسامة ساخرة باهتة شعرت بأن سيف قد رآها رقم تركيزه على الطريق ...
تذكرت لحظتها تلك الأيام ...
و أولئك الزملاء في السجن ...
لماذا أشعر بهم الآن حولي ؟؟
كأني أشم راحة الزنزانة !
ربما أثارت رائحة السيجارة تلك الذكريات السوداء !
و هل يمكن أن أنساها ؟
و هل يعقل أن تختفي و أنا لم أبتعد عنها غير أيام فقط ...؟؟
ليتهم ...
ليتهم قتلوني معك يا نديم ...
ليتنا تبادلنا الأرواح ...
فمت ُّ أنا
و بقيت أنت ... و خرجت لتعود لأهلك و بلدك و أحبابك ...
أنا ... لا أهل لي و لا بد ...
و لا أحباب ...

لمحت الإشارة تضيء اللون الأخضر و أنا أسحق سيجارتي في ( المطفئة)
ثم انطلق وليد بالسيارة ...
أنوار كثيرة كانت تسبح في الظلام ...
مصابيح السيارات القادمة على الطريق المعاكس
مصابيح المنازل
مصابيح الشارع ...
لافتات المحلات الضوئية
نور على نور على نور ...
كم هو أمر مزعج ... لم أعد أرغب في رؤية شيء ...
أتمنى ألا تشرق الشمس يوم الغد ...
أتمنى ألا يعود الغد ...
أتمنى ... ألا أذكر رغد ...

كانت المرة الثانية في حياتي ، التي تمنيت فيها لو أن رغد لم تخلق ...

عندما دخلنا الشقة، و هي مكونة من غرفة نوم و صالة صغيرة و زاوية مطبخ و حمام واحد ... أسرعت الخطى نحو غرفة النوم و دون أن أنير المصباح دخلت و ألقيت بجسدي المخدر أثر صدمة النبأ على أحد السريرين ...

ثوان ، و إذا بسيف يقبل و يشعل المصباح

" كلا .. أرجو أطفئه "

قلت ذلك و أنا أرفع يدي ثم أضعها فوق عيني المغمضتين لأحجب عنهما النور ...
سيف بادر بإطفاء المصباح و بقي واقفا برهة ... ثم أقلق الباب و أحسست به يتقدم ... ثم يجلس فوق السرير الآخر و الموازي لسريري ...

ساد السكون لبعض الوقت ، إلا من ضوضاء تعشش في رأسي بسبب الأفكار التي تتعارك في داخله ...

" ماذا حدث ؟؟ "

سألني سيف بصوت هادئ منخفض ...
لم أجبه ... و مرت دقائق أخرى فاعتقدت أنه حسبني قد دخلت عالم النيام ... لكنه عاد يقول :

" أخبرني ... ، إنك لست على ما يرام "

بعد ذلك أحسست بحركته على السرير المجاور و بصوته يقترب أكثر ...

" وليد ؟؟ "

الآن فتحت عيني قليلا و لدهشتي رأيه يقف عند رأسي و يحدق بي ...
الظلام كان يطلي الغرفة بسواد تام ، إلا عن إضاءة بسيطة تتسلل بعناد من تحت الباب
و يبدو إنها كانت كافيه لتعكس بريق الدموع التي أردت مواراتها في السواد .
لحظة من لحظات الضعف الشديد و الانهيار التام .. توازي لحظة تراقُص الحزام في الهواء ... ثم سكونه النهائي على الرمال ... إلى حيث لا مجال للعودة أو التراجع ... فقد قضي الأمر ...

جلست ، ليست قوتي الجسدية هي التي ساعدتني على النهوض ، و لا رغبتي الميتة في الحراك ، بل الدموع التي تخللت تجويف أنفي و ورّمت باطنه و سدت المعبر أمام أنفاسي البليدة البطيئة ... و كان لابد من إزاحتها ...

تناولت منديلا من العلبة الموضوعة فوق المنضدة الفاصلة بين السريرين و جعلت أعصف ما في جوفي و صدري و كياني ... خارجا

إلى الخارج ...
يا دموعي و آلامي
يا أحزاني و ذكرياتي الماضي
إلى الخارج يا حبي و مهجة قلبي
إلى الخارج يا بقايا الأمل
إلى الخارج يا روحي ...
و كل ما يختزن جسمي من ذرات الحياة ....
و إلى الخارج ...
يا اعترافات لم أكن أتوقع أنني سأبوح بها ذات يوم ... لأي إنسان ...

" هل واجهت مشكلة مع أهلك ؟؟ ... بالأمس كنت ... كنت َ ... "

و صمت ...

فتابعت أنا مباشرة :

" كنت ُ أملك الأمل الأخير ... و قد ضاع و انتهى كل شيء ...
إنني لم أعد أرغب في العودة إليهم ! سأرحل معك يا سيف "

قلت ذلك و كانت فكرة وليدة اللحظة ، ألا أنها كبرت فجأة في رأسي و احتلت عقلي برمته ، ففتحت عيني و حملقت في الفراغ الذي خلقت منه هذه الفكرة ثم استدرت نحو سيف و قلت :

" أنا عائد معك إلى مدينتنا ! "

طبعا سيف تفاجأ و لم يكن الظلام ليسمح لي برؤية ظاهر ردود فعله أو سبر غورها

سمعته يقول :

" ماذا ؟ ! "

قلت مؤكدا :

" نعم ! سأذهب معك ... فلم يعد لي مكان أو داع هنا "

سيف صمت ، و لم يعلق بادئ الأمر ، ثم قال :

" أما حدث ... كان سيئا لهذا الحد ؟؟ "

و كأن جملته كان شرارة فجرّت برميل الوقود ...
ثرت بجنون ، قفزت من سريري مندفعا هائجا صارخا :

" سيئ ٌ فقط ؟؟ بل أسوأ ما يمكن أن يحدث على الإطلاق ... إنها خيانة ! إنهما خائنان ... خائنان ... خائنان "

مشيت بتوتر و عصبية أتخبط في طريقي ... أبحث عن أي شيء أفرغ فيه غضبي بلكمة قوية من يدي لكنني لم أجد غير الجدار ...

و هل يشعر الجدار ؟؟

آلام شديدة شعرت أنا بها في قبضة يدي أثر اللكمة المجنونة نحو الجدار ، و استدرت بانفعال نحو سيف الذي ظل جالسا على السرير يراقبني بصمت ...

" لقد سرقوا رغد مني ! "

لأن شيئا لم يتحرك في سيف استنتجت أنه لم يفهم ما عنيته ... قلت :

" أعود بعد ثمان سنوات من العذاب و الألم ... و الذل و الهوان الذي عشته في السجن بسبب قتلي لذلك الحقير الذي أذاها ... ثمان سنوات من الجحيم ... و المرارة ... و الشوق ... فقدت فيها كل شيء سوى أملى بالعودة إليها هي ... أعود فأجدها ... "

و سكت ...
لأنني لم أقو على النطق بالكلمة التالية ...
و درت حول نفسي بجنون ، ثم تابعت ، و قد خرجت الكلمة من فمي ممزوجة بالآهة و الصرخة و الحسرة :

" أجدها مخطوبة ؟؟ "

هنا وقف سيف ...
إلا أنني لم أكن قد انتهيت من إفراغ ما لدي

قلت بصوت صارخ جاد مزمجر :

" و لمن ؟؟ لأخي ؟؟؟ أخي ؟؟؟ "

حتى لو كانت الغرفة منارة لم أكن لأستطيع رؤية شيء وسط انفعالي الشديد ساعتها ...
لذا لا أعرف كيف كانت تعابير وجه سيف ...
و لكن بإمكاني رؤية خياله واقفا هناك ...
اندفعت كلماتي مقترنة بدموعي و زفيري القوي و صوتي الأجش المجلل ... و أنا أقول :

" لو كان ... لو كان شخصا آخر ... أي شخص ... لكنت قتلته و محوته من الوجود ... لكنه أخي ... أخي يا سيف ... أخي ...
كيف تجرأ على سرقتها مني ؟؟
كيف فعلوا هذا بي ؟؟
أهذا ما أستحقه ؟؟
ليتني لم أخرج من السجن
ليتني مت هناك
ليتني أفقد الذاكرة و أنسى أنني عرفتها يوما
الخائنة ...
الخائنة ...
الخائنة ... "

و انتهيت جاثيا على الأرض في بكاء شديد كالأطفال ...

" لقد أطعمتك ِ بيدي ... كيف تفعلين هذا بي يا رغد ؟؟ أنا قتلته انتقاما لك ِ أنت ِ ...
أيتها الخائنة ... أكان هذا حلمك ...؟
اذهبي بأحلامك إلى الجحيم ... "

و أدخلت يدي إلى جيبي ، و أخرجت منه الصورتين اللتين رافقتاني و لازمتاني لثمان سنين ، لستين دقيقة من كل ساعة من كل يوم ...
أخرجتهما و أخرجت معهما القصاصة التي وجدتها تحت باب غرفتي ...
لم أكن أرى أيا مما أخرجت ، و لكن يدي تحس ... و تدري أيها صورة رغد ... فلطالما أمسكت بالصورة و احتضنتها في يدي لساعات و ساعات ...
الدموع بللت الصورتين و كذلك الورقة ...


" أيتها الخائنة ... اذهبي و أحلامك إلى الجحيم ... "

و قبل أن أتردد أو أدع لعقلي المفقود لحظة للتفكير ...
مزقت الورقة ... إربا إربا ...
و رميت بها في الهواء ...
و مزقت صورة رغد ... قطعة قطعة ... و بعثرتها في الفراغ ... إلى حيث تبعثرت آخر آمالي و أحلامي ...
و انتهت آخر لحظات حبي الحالم ...
و تلاشت آخر ذرات غبار الماضي ...
و لم يبق لي ...
غير حطام قلب ٍ منفطر ...











التوقيع

.
.
.




ليس الوجع في أيام الفقد الأولى ، بل حين تأتي الأيام السعيدة
فتجد أنّ من يستطيع مشاركتك فرحتك بشكل أكبر و أعمق قد رحل ..!!










.
.

رد مع اقتباس
قديم 27-05-2009, 05:02 AM   #14
بيادر الحب
المراقب العــام
الصورة الرمزية بيادر الحب

المعلومات





آحدث المواضيع


الاتصال

بيادر الحب غير متصل

بيادر الحب تم تعطيل التقييم
افتراضي رد: [ أنت لي ] رواية جميلة للكاتبة / تمرحنا

الجزء الثالث عشر





ذهبنا أنا و دانة لرفع الأطباق عن المائدة
كان الضيف مع أبي و سامر ، و وليد في غرفة الضيوف ، فيما تعد والدتي الشاي في المطبخ .
لأن سامر يجلس عادة إلى يسار والدي ، فلا بد أن الضيف قد جلس إلى يمنه ، و لابد أن الكرسي المجاور له كان كرسي وليد ...

" من كان يجلس هنا ؟ "

سألت ، بشيء من البلاهة المفتعلة ، فأجابتني دانة بسحرية و هي ترفع الأطباق :

" ما أدراني ؟ أتصدقين ... لم أكن معهم !
أقصد كنت أجلس على الكرسي المقابل لكنني لم أنتبه لمن كان يجلس أمامي ! "

قلت :

" و ما دمت قد كنت جالسة معهم ، فلماذا لا أرى أطباقا أمام مقعدك ؟؟ "


رفعت دانة نظرها عن السكاكين و الملاعق و الأشواك التي كانت تجمعها ، و هتفت بغضب و حدة :

" رغد ! "

و هي تحرك يدها مهددة برميي بالسكاكين !

قلت بسرعة :

" حسنا حسنا لن أسأل المزيد "

و صمتنا للحظة

ثم عدت أقول :

" الشخص الذي كان يجلس هنا ... لم يأكل شيئا ! ربما لم يعجب الضيف طعامنا ! "

كنت أريد منها فقط أن تقول شيئا يرجح استنتاجي بأن وليد كان هو من يجلس على هذا المقعد ...
جلست على ذلك المقعد ، و أخذت إحدى الفطائر من الطبق الموضوع أمامي و بدأت بقضمها

التفتت إلى دانة ناظرة باستهجان :

" ماذا تفعلين ؟؟ !"

مضغت ما في فمي ببطء شديد ثم ابتلعته ، ثم قلت :

" أرى ما إذا كانت الفطائر في هذا الطبق غير مستساغة ! لكنها لذيذة ! لم لم تعجبه ؟؟ "

طبعا كنت أتعمد إثارة غيظها ! فأنا أريدها أن تأمرني بالمغادرة فورا لأنجو من غسل عشرات الأطباق ... فقد تعبت !

دانة كانت على وشك الصراخ بوجهي ، إلا أن والدتنا أقبلت داخلة الغرفة لتساعدنا في رفع الأطباق و تنظيفها ، فأسرعت بالنهوض و عملت بهمة و نشاط خجلا منها !

بعد أن انتهيت من درس الغسيل هذا ذهبت إلى غرفتي و أنا متعبة و أتذمر
كنت قلقة بشأن بشرة يدي التي لا تتحمل الصابون و المنظفات
أخذت أتلمسها و شعرت بجفافها ، فأسرعت إلى المرطبات و المراهم ، و دفنت جلدي تحت طبقة بعد طبقة بعد طبقة منها !

قلت في نفسي :

" رباه ! إنني لا أصلح لشيء كهذا ! كيف سأصبح ربة منزل ذات يوم ؟ لا أريد أن أفقد نضارتي ! "

و تذكرت حينها موضوع زواجنا الذي كدت أنساه !
لا أعلم ما إذا كان سامر قد تحدث مع والدي بشأن الزواج أم لا ... فقد شغلنا جميعا حضور وليد عن التفكير بأي شيء آخر ...

اضطجعت على سريري بعد فترة ، و أنا متوقعة أن أنام بسرعة من شدة الإرهاق ... إلا أن أفكارا كثيرة اتخذت من رأسي ملعبا ليلتها و حرمتني من النوم ... !

حتى هذه اللحظة لا زلت أشعر بشيء يحرق داخل عيني ...
إنها نظرة وليد المرعبة الحادة التي أحرقتني ...
تقلبت على سريري كما تُقلّب السمكة أثناء شويها !
كنت أشعر بالحرارة في جسدي و فراشي ...
فنظرت من حولي أتأكد من عدم انبعاث الدخان !

لماذا حدّق بي وليد بهذا الشكل ؟؟

تحسست يدي اليمنى باليسرى ، و كأنني لا أزال أشعر بالألم فيها بل و توهمت توهجها و احمرارها ... و حرارتها ...
إنه طويل جدا ! لا يزال علي ّ رفع رأسي كثيرا لأبلغ عينيه ...
و رفعت رأسي نحو السقف ، أعتقد أنني رأيت عينيه هناك ! معلقتين فوق رأسي تماما ...

بسرعة سحبت البطانية و غطيت رأسي كاملا ... و بقيت هكذا حتى نفذت آخر جزيئات الأوكسجين من تحت البطانية فأزحتها جانبا ، و انتقل الهواء البارد المنعش إلى صدري مختالا ، إلا أن حرارتي أحرقته ، فخرج حارا مخذولا !

عدت أنظر إلى السقف ، و أتخيل عيني وليد ... و أنفه المعقوف !
و أتخيله يضع نظارة سامر السوداء التي تلازمه كلما خرج من المنزل ، كم ستبدو مناسبة له !

لا أعرف كم من الوقت مضى و أنا أتفرج على الأفكار السخيفة و هي تلعب بحماس داخل رأسي !
كنت أريد أن أنام و لكن ...
نظرت إلى ساعة الجدار و رأيت عقربيها الوامضين يشيران إلى الساعة الواحدة ليلا ...
ليس من عادتي أو عادة أفراد عائلتي السهر ... لابد أن الجميع يغط الآن في نوم عميق فيما أنا مشغولة بعيني وليد !

لدى رؤيتي للساعة تذكرت شيئا فجأة ، فجلست بسرعة :

" الساعة ! "

و بسرعة خاطفة ، نهضت عن سريري و خرجت من الغرفة و ركضت نحو غرفة الضيوف ...

لقد وجدت الباب مغلقا ، فوقفت حائرة ...
ترى هل يوجد أحد بالداخل ؟؟
و خصوصا من النوع الذي تتعلق عيناه في الأسقف ؟؟

قربت رأسي و تحديدا أذني من الباب ، قاصدة الإصغاء إلى أي صوت قد يدل على وجود شخص ما ، مع أنني واثقة من أن أذني ليستا خارقتين ما يكفي لسماع صوت تنفس بشر ما يفصلني عنه باب و عدة خطوات !

لكني على الأقل ، لم أسمع صوت المكيف !

لمست مقبض الباب الحديدي ، و لأنه لم يكن باردا اعتمدت على هذا كدليل قاطع يثبت أن المكيف غير مشغل ، و بالتالي فإن أحدا ليس بالداخل !

أعرف !
أنا أكثر ذكاءا من ذلك ، لكن هذه اللحظة سأعتمد على غبائي !
فتحت الباب ببطء و حذر ... و تأكدت حينها أنه لم يكن هناك أحد...
أضأت المصباح و توجهت فورا إلى المكان الذي وقعت فيه الساعة بعد ارتطامها بالحائط ... خلف المعقد الكبير ...

كانت هناك مسافة لا تتجاوز البوصتين تفصل المقعد الكبير عن الجدار ...
حاولت النظر من خلال هذا المجال الضيق إلا أنني لم أستطع رؤية شيء

صحيح أن حجمي صغير إلا أن يدي أكبر من أن تنحشر في هذه المساحة الضيقة محاولة استخراج الساعة !

" تبا ! ماذا أفعل الآن ؟؟ "

شمّرت عن ذراعي ، و تأهبت ... ثم أمسكت بالمقعد الكبير و حاولت تحريكه للأمام محاولة مستميتة
لكن مفاصلي كادت أن تنخلع دون أن يتزحزح هذا الجبل عن مكانه قدر أنملة !

" أرجوك أيتها الساعة أخرجي من هناك ! "

ليتها كانت تسمعني ! لماذا لم يصنع الإنسان ساعة تمشي على أرجل حتى يومنا هذا ؟؟

شعرت بإعياء في عضلاتي فارتميت على ذلك المقعد ...

رباه !
ستضطر غاليتي للمبيت بعيدة عني ... مجروحة و حزينة و لا تجد من يواسيها !
وضعت وسادة المقعد على صدري و أرخيت عضلاتي ...
لم أشعر بنفسي ...
و لا حتى بالحر الذي يكوي داخلي قبل خارجي
و استسلمت للنوم !






~ ~ ~ ~ ~ ~







و لا للحظة واحدة بعد النبأ القاتل ، استطعت أن أرتاح ...
متمدد على سريري منذ ساعات ... و أفكر في نهايتي البائسة ...
طلع النهار منذ مدة و امتلأت الغرفة ضوءا مزعجا ، أصبحت أكرهه ... بل و أكره الشمس التي أجبرت عيني على استقبال النور ...

نهضت عن السرير و أنا أحس بالآلام في جميع مفاصل بدني ... و ما أن جلست ، حتى وقعت أنظاري التائهة على أشلاء الصورة المبعثرة فوق أرضية الغرفة ..

أتيتها ، و التقطتها قطعة قطعة و كومتها فوق بعضها البعض و ضممتها إلى صدري ...

وضعتها في جيبي ، و هممت برمي أجزاء الورقة الممزقة ، لكنني لم أقو على ذلك ...

كيف لي أن أمحو من الوجود شيئا جاءني منك ؟؟
آخر شيء جاءني منك ...
و آخر شيء سأستلمه على الإطلاق ...
كان الصباح الباكر ... حملت علبة سجائري و خرجت من الشقة و إلى الشارع ، و أخذت أتمشى ...

لم يكن هناك سوى بعض السيارات تمر بين الفينة و الأخرى ، و بعض عمال النظافة متناثرين في المنطقة بزيهم المزعج اللون ...

لم يكن في المنظر ما يبهج النفس أو يريح الأعصاب ...

بدأت أدخن السيجارة تلو الأخرى ، فهذا هو الشيء الوحيد الذي يشعرني بالراحة المزيفة ...

تفكيري لم يكن صافيا ، إلا أنني عزمت على الرحيل عائدا إلى بيتي ...

بعد قرابة الساعتين ، عدت للشقة فوجدت سيف و قد خرج توه من دورة المياه بعد حمام منعش ، تفوح منه رائحة الصابون ...

ألقى علي تحية الصباح بمجرد أن رآني ، فرددت و أنا أشعر بالخجل من رائحة السجائر المنبعثة مني إزاء رائحة النظافة و الصابون الصادرة منه !

" هل نمت جديا ؟؟ لا تبدو نشيطا ! "

قال سيف ذلك ، و هو يدقق النظر في الهالتين السوداوين اللتين تحيطان بعيني الكئيبتين الحمراوين ...

لم يكن علي أن أجيب ، فقد جاءه الجواب بليغا من مظهري ...

قال سيف :

" أنني أفكر في الطعام ! أ لديكم في البيت ما يؤكل أم أفتش عن مطعم !؟ "

كان يقول ذلك بمرح و دعابة ، لكني كنت في حالة سيئة للغاية ... أسوأ من أن تسمح لي بأي تفكير لائق أو ذوق سليم ، قلت :

" دعنا ننطلق الآن "

سيف تسمر في موضعه و حدق بي بدهشة ! لكن إشارات الإصرار الصارخة في عيني طردت من رأسه أي شكوك حول جديتي في الأمر من عدمها ...

" الآن ؟؟ "

" نعم ... لم علينا الانتظار للغد ؟؟ تبدو في قمة النشاط و لا ضير من السفر الآن "

سيف صمت قليلا ثم قال :

" عائلتك ... أتظن أنهم .... ... "

رفعت زاوية فمي اليمنى باستهتار و سخرية ثم تنهدت تنهيدة قصيرة و قلت :

" لم يعد لي مكان بينهم ... فكما نسوني طوال السنوات الثمان الماضية ، و عاشوا حياتهم دون تأثر ، عليهم اعتباري قد مت من اليوم فصاعدا ...
بل من البارحة فصاعدا "

لقد كنت محبطا و لا أرى إلا سوادا في سواد ...

بقيت واقفا عند الباب أنتظر أن يجمع سيف أشياءه و لم أبادر بمساعدته ، سيف لم يحاول مناقشتي في الأمر و إن كنت أرى الاعتراض مختبئا خلف جفونه

كان الوقت لا يزال باكرا ، ركبنا السيارة و انطلقنا ...

" سأمر لوداعهم "

نعم وداعهم
بعد كل الذي تكبلت من أجل العودة إليهم
بعد كل تلك السعادة التي عشتها يوم الأمس
بعد كل الحرمان و الضياع ...
أودعهم !
كيف لي أن أقيم معهم و قد انتهى كل معنى لوجودي ؟؟

لم يكن في الشارع غير القليل من السيارات و الناس ... و كان المشوار قصيرا
و حين وصلنا ، ركن سيف السيارة جانبا و نزلنا سوية .

كان والدتي هي من استقبلنا عند المدخل
و بمجرد أن دخلت ، أقبلت نحوي تعانقني و ترحب بي بحرارة ، و كأنها لم ترني يوم الأمس ...

قلت :

" سيف معي ... "

و كان سيف لا يزال واقفا خلف الباب ينتظر الإذن بالدخول

" دعه يتفضل ، خذه إلى غرفة المعيشة حيث والدك ، فغرفة الضيوف حارة الآن "

ثم انصرفت نحو المطبخ ، فيما فتحت الباب لسيف :

" تفضل "

و ذهبنا إلى غرفة المعيشة حيث كان والدي جالسا يقرأ إحدى الصحف ...
في الماضي ، كنت كثيرا ما أقرأ أخبار الصحف له !

" صباح الخير يا أبي "

والدي قام إلينا مرحبا بحرارة هو الآخر ... و اتخذ كلاهما مجلسه ، فيما استأذنت أنا و خرجت من الغرفة قاصدا المطبخ ، و تاركا الباب مفتوحا ، تشيعني نظرات سيف من الداخل !

هناك كانت والدتي واقفة عند الموقد و قد وضعت إبريقا كبيرا مليئا بالماء ليغلي فوق النار ...

ابتسمت لدى رؤيتي و قالت :

" لم أعلم أنك غادرت البارحة إلا بعد حين ... اذهبا أنت و سامر اليوم لشراء طقم غرفة نوم جديد ، سنعد لك غرفة الضيوف لتتخذها غرفة لك "

طبعا لم أملك من الشجاعة لحظتها ما يكفي لقول ما أخبئه في صدري ...
قلت ـ محاولا تغيير سير الحديث :

" هل تناولتم فطوركم ؟ "

" ليس بعد ، فسامر و الفتاتان لا زالوا نياما !"

و استطردت :

" سأعد لكم فطورا شهيا ... ، شغّل المكيف في غرفة الضيوف الآن ثم خذ الضيف إليها "

" حسنا "

و هممت بالانصراف ، فقالت أمي :

" قل لي ... أي طعام تود تناوله على الفطور يا عزيزي ؟؟ "

إنني لا أفكر بالطعام و لولا سيف لكنت اختصرت المسافة و ودعتكم و انتهينا ...

قلت بلا مبالاة :

" أي شيء ... "

ثم خرجت من المطبخ متجها إلى غرفة الضيوف لتشغيل المكيف .

كان الباب مفتوحا ، دخلت و ذهبت رأسا إلى المكيف فشغّلته و استدرت لأعود خارجا
فاصطدمت عيناي بشيء جعل قلبي يتدحرج تحت قدمي !

ربما كان صوت المكيّف هو الذي جعل هذا الكائن الحي يفيق فجأة ، و يفتح عينيه ، و يهب جالسا في فزع !

أخذت تنظر إلي بتوتر و اضطراب و تتلفت يمنة و يسرة ، بينما أنا متخشب في مكاني ... لا أعرف ماذا أفعل !

ببساطة لا أعرف ماذا أفعل !

ثم ماذا ؟

رفعت الوسادة المربعة الشكل التي كانت موضوعة فوق حضنها و غطت بها وجهها و هبّت واقفة مستترة خلف الوسادة ، و ركضت نحو الباب !

" رغد انتظري ! "

توقفت ، و هي لا تزال تخبئ رأسها خلف الوسادة و أنا لا أزال واقفا مكاني لا أعرف ما أفعل من المفاجأة !

ربما أخطأت و شغلت المكيف على وضع التدفئة ! الجو حار ... حار ... حار !
و قطرات العرق بدأت تتجمع على جبيني و شعري أيضا ... !

اعتقد أنه موقف لا يترك للمرء فرصة للتفكير ، إلا أنني تذكرت سيف ، و هو يجلس في موقع يسمح له برؤية العابر في الممر ... و الباب مفتوح !

" أأ ... صديقي هنا ... سأغلق الباب ... لحظة ... "

كانت تقف قرب الباب و حين أتممت جملتي تراجعت للوراء حتى التصقت بالجدار فسرت أنا نحو الباب و خرجت و عمدت إلى باب غرفة المعيشة فأغلقته دون أن أرفع بصري نحو سيف الذي و لا شك كان يراني ...

عدت بعدها للفتاة الملتصقة بالحائط و الوسادة ... وقلت باضطراب :

" أنا ... آسف ... لم أعلم ... أقصد لم أنتبه ... أأ... "

و لم أجد كلمة مناسبة !

مسحت العرق عن وجهي و قلت أخيرا :

" يمكنك الذهاب "

و أوليتها ظهري ، و سمعت خطاها تبتعد مسرعة...

تهالكت على نفس المقعد الكبير الذي كانت رغد نائمة فوقه و شعرت بالحرارة تزداد ...

لقد كان دافئا بل و حارا أيضا !

ما الذي يدفعك للنوم في هذا المكان و بدون تكييف !؟

و تتدثرين بالوسادة أيضا !

يا لك من فتاة !

لا أعرف كيف تسللت ابتسامة إلى قلبي ...

لا ! ليست ابتسامة بل شيء أكبر من ذلك

إنها ضحكة !

لم يكن ظرفا مناسبا للضحك و حالتي كما تعرفون هي أبعد ما تكون عن السعادة ، لكنه موقف أجبر ضحكتي على الانطلاق ...

لم يطل الأمر ... وقفت ، و أخذت أحدق بالمقعد الذي كانت رغد تنام عليه ... ثم أتحسسه بيدي ...

عندما كانت رغد صغيرة ، كنت أجعلها تنام فوق سريري و أظل أراقبها بعطف ...

و أداعب شعرها الأملس ...

كانت تحب أن تحتضن شيئا ما عند النوم ... كدمية قماشية أو بالونة أو حتى وسادة !

و كم كانت تبدو بريئة و ملائكية !

لم يكن لضحكتي تلك أي داع لأن تولد وسط مجتمع الدموع الحزينة ، سرعان ما لقت حتفها بغزو دمعة واحدة تسللت من بين حدقتي قهرا ... و حسرة ... على ما قد فقدت ...





~ ~ ~ ~ ~ ~






لم أدرك أنني نمت حيث كنت ، على ذلك المقعد الكبير الثقيل ، ( الكنبة ) إلا بعد أن استفقت فجأة فرأيت عيني وليد تحدقان بي !

فزعت ، و نظرت من حولي و اكتشفت أنني كنت هنا !

كان جسمي حارا و العرق يتصبب منه ، و جلست مذعورة أتلفت باحثة عن شيء أختفي خلفه ... و لم أجد غير وسادة المقعد التي كنت ألتحفها
غطيت بها وجهي و قمت مسرعة أريد الهروب !

لا أصدق أنني وصلت غرفتي أخيرا بسلام ! يا إلهي ما الذي يحدث معي !؟
كيف نمت بهذا الشكل ؟؟ و كيف لم يوقظني الحر ؟؟
و ما الذي كان يفعله وليد هناك ؟؟؟

كنت لا أزال أحتضن الوسادة و أسند ظهري إلى الباب الموصد ، و ألتقط أنفاسي بقوة !

كانت غرفتي باردة و لكن ليس هذا هو سبب ارتعاش أطرافي !

كم أنا محرجة من وليد !
أمس يراني بقطعة عجين تغطي أنفي و اليوم بهذا الشكل !
ماذا سيظنني ؟؟
كما تقول دانة .. علي ّ ألا أغادر غرفتي بعد الآن !

كنت أشعر بعينيه تراقباني ! أحس بهما معي في غرفتي الآن !

ببلاهة نظرت إلى السقف ، في الموضع الذي توهمت رؤيتهما فيه البارحة و تورد خداي خجلا !

لماذا أشعر بالحرارة كلما عبر وليد على مخيلتي ؟؟؟

و لماذا تتسارع دقات قلبي بهذا الشكل ؟؟

بعد أن تجمعت الأشياء التي تبعثرت من ذاتي أثر الفزع نعمت بحمام منعش و بارد و ارتديت ملابسي و حجابي و ذهبت بحذر إلى المطبخ ...

كانت أمي تنظف السمك عند المغسل ، قلت باستياء :

" صباح الخير أمي ! لا تقولي أن غذاءنا اليوم هو السمك ! "

ابتسمت والدتي و قالت :

" صباح الخير ! إنه السمك ! "

أطلقت تنهيدة اعتراض ، فأنا لست من عشّاق السمك كما و أنني لا أريد حصة طبخ جديدة هذا اليوم !

" ألم تنهض دانة بعد ؟؟ "

سألتني ، قلت :

" ليس بعد ... "

ثم غيرت نبرة صوتي و قلت :

" أ لدينا ضيوف اليوم ؟؟ "

" إنه صديق وليد ... سيف ... ، لسوف نستضيفه و نكرمه حتى يسافر غدا ، فهو الذي ساعد ابني على ... "

و توقفت أمي عن الكلام ...

" على ماذا ؟ "

قالت بشيء من الاضطراب :

" على ... على الحضور إلى هنا ... فلم يكن يعرف أين نحن ! "

أنا تركت رسالة أخبر فيها وليد بأننا رحلنا إلى هذه المدينة ! لا أدري إن كان قد وجدها ! بالطبع لا ... كيف كان سيدخل إلى منزل موصد الأبواب !؟

كم أنا متلهفة لمعرفة تفاصيل غيابه ... دراسته ... عمله ... كل شيء !

سكبت لي بعض الشاي ، و توجهت نحو الطاولة الصغيرة الموجودة على أحد جوانب المطبخ قاصدة الجلوس و احتسائه على مهل

فيما أنا في طريقي نحو الطاولة ، و إذا بوليد و سامر مقبلين ... يدخلان المطبخ !

ما أن وقع بصري على وليد حتى اضطربت خطاي و اهتزت يدي ، و اندلق بعض الشاي الحار على أصابعي فانتفضت أصابعي فجأة تاركة قدح الشاي ينزلق من بينها و يهوي ... و يرتطم بالأرضية الملساء ساكبا محتواه على قدمي و ما حولها !

" آي "

شعرت بلسعة الشاي الحار و ابتعدت للوراء و أنا أهف على يدي لتبريدها ...

سامر أقبل مسرعا يقول :

" أوه عزيزتي ... هل تأذيت ؟ ! "

قلت :

" أنا بخير "

و أنا أتألم ...

سامر أسرع نحو الثلاجة و أخرج قطعة جليد ، و أتى بها إلي ، أمسك بيدي و أخذ يمررها على أصابعي ...
لملامسة الجليد لأصابعي شعرت بالراحة ...

قلت :

" شكرا "

و ابتسم سامر برضا .

تركته مشغولا بتبريد أصابعي و سمحت لأنظاري بالتسلل من فوق كتفه ، إلى ما ورائه ...

كان يقف عند الباب ، سادا بطوله و عرضه معظم الفتحة ، يحدق بنا أنا و سامر بنظرات مخيفة !

لا أعرف لماذا دائما تشعرني نظراته بالخوف ... و الحرارة !

الجليد أخذ ينصهر بسرعة ....

رفعت أنظاري عنه و بعثرتها على أشياء أخرى ، أقل إشعاعا و حرارة ... كالثلاجة كإبريق الشاي ، أو حتى ... لهيب نار الموقد !

لكني كنت أشعر بها تحرقني عن بعد !

أ أنتم واثقون من أنكم لا تشمون شيئا ؟؟



وليد الآن تحرك ، متقدما للداخل ... و مبتعدا عنا ، و متوجها نحو أمي ...

قال :

" ماذا تصنعين أماه ؟ "

" سأحضر لكم السمك المشوي هذا اليوم ... ألم يكن صديقك يحبه في الماضي حسب ما أذكر ؟؟ "

سكت وليد برهة ثم قال :

" لا داعي ... يا أمي .. "

و سكت برهة أخرى ثم واصل :

" سوف يسافر سيف الآن ... "

جميعنا ، أنا و سامر و أمي ، نظرنا إلى وليد باهتمام ...

قالت أمي :

" يسافر ؟ ألم تقل أنه سيبقى حتى الغد ؟ "

" بلى ... لكن خطته تغيرت و سيخرج ... فورا "

قال ( فورا ) هذه بحدة و هو ينظر باتجاهنا أنا و سامر

أمي قالت :

" اقنعه يا وليد بالبقاء حتى وقت الغذاء على الأقل ... اقنعه بني ! "

وليد كان لا يزال ينظر باتجاهنا ، و رأيت يده تنقبض بشدة و وجهه يتوهج احمرارا و على جبينه العريض تتلألأ قطيرات العرق ...

لم يكن الجو حارا و لكن ...

هذا الرجل ... ناري ... ملتهب ... حار ... يقدح شررا !

نظر إلى أمي نطرة مطولة ثم قال :

" أنا ... ذاهب معه "

سامر ، ترك قطعة الجليد فوق أصابعي و استدار بكامل جسده نحو وليد ، كما فعلت أمي ...

قال سامر :

" عفوا ؟؟ ماذا ؟؟ "

وليد لم ينظر إلى سامر بل ظل يراقب تعابير وجه أمي ، المندهشة الواجمة ، و قال :

" نعم أمي ... سأسافر معه ... حالا "



~ ~ ~ ~ ~ ~ ~




لم تجد ِ الدموع و النداءات و التوسلات التي أطلقها أفراد عائلتي في صرف نظري عن السفر ...

بل إنني و في هذه اللحظة بالذات ، أريد أن أختفي ليس فقط من البيت ، بل من الدنيا بأسرها
لقد كانت حالة أمي سيئة جدا ... و لكن صورة الخائنين و أيديهما المتلامسة ... و قطعة الجليد المنزلقة بدلال بين أصابعهما أعمت عيني عن رؤية أي شيء آخر ...

و أقيم مهرجان مناحة كبير ساعة وداعي ...

كان يجب أن أذهب ، و لم يكن لدي أية نوايا بالعودة ... فقد انتهى كل شيء ...

تحججت بكل شيء ...

أوراقي ... شهادتي ... أشيائي ... و كل ما خطر لي على بال ، من أجل إقناعهم بتسليمي مفاتيح المنزل ...

سيف ينتظرني في السيارة ، و هم متشبثون بي يعيقون خروجي ، محيطون بي من الجهات الأربع ... أمي و أبي ، و أختي و آخي الخائن ...

أما الخائنة رغد ... فكانت تراقب عن بعد ... إذ أنني لم أعد شيئا يجوز لها الاقتراب منه ...

للحظة اختفت رغد ، و صارت عيناي تدوران و تجولان فيما حولي ...

أين أنت ...؟؟

أين ذهبت ؟؟

أعليها أن تحرمني حتى من آخر لحظة لي معها ؟؟

آخر لحظة ؟؟

كنت ممسكا بالباب في وضع الخروج ... أردت أن أسير خطوة نحو الخارج إلا أن قبضة موجعة في صدري منعتني من الخروج قبل أن ... أراها للمرة الأخيرة ...
فقط ... للمرة الأخيرة ...

" أين رغد ؟؟ "

قلت ذلك ، و عدت نحو الداخل أفتش عنها

وجدتها في غرفة الضيوف و كانت للعجب ... تحاول تحريك المقعد الكبير عن مكانه !

" رغد ... ! "

التفتت إلي ، فرأيت الدموع تغرق عينيها فيما هي تحاول جاهدة زحزحة المقعد

دموع رغد تقطع شرايين قلبي ...

أشعر بالدماء تغرق صدري و رئتي ... و تسد مجرى هوائي ....

إنني أختنق يا رغد !

ليتك تحسين بذلك ...

" ماذا تفعلين ؟؟ ألن ... تودعيني ؟؟ "

هزّت رأسها نفيا و اعتراضا ...

تقدمت نحوها ، و أمسكت بالمقعد و حركته عن موضعه نحو الأمام بالشكل الذي أرادت ، فأسرعت هي إلى خلفه ، و انحنت على الأرض و التقطت شيئا ما ، لم يكن غير ساعتي القديمة ...

رغد أقبلت نحوي تمد يدها إلي بالساعة و تقول :

" لقد تركت الجميع يسخر مني ... و أنا محتفظة بها و أرتديها في انتظار عودتك كما وعدت ! لكنك كذبت علي ... و لم تعد ! "

و رمت بالساعة نحوي فأصابت أنفي ...

انحنيت و رفعت الساعة عن الأرض ... و بقينا نحدق ببعضنا لبرهة ، ثم قلت :

" لم تعودي بحاجة للاحتفاظ بها ... فصاحب الساعة ... لم يعد موجودا "

و أوليتها ظهري ، و انصرفت نحو باب المدخل ...

لم أعط بصري الفرصة لإلقاء أي نظرة على أي منهم ... لم ألتفت للوراء ... و كنت اسمع نداءاتهم دون أن أستجيب لها ...

تريدون عودتي ؟؟
أعيدوا رغد إلي أولا !
أم تظنون أنني سأحتمل العيش بينكم ، و هي ... خطيبة لأخي ؟؟
دون رغد ... فإن وليد لم يعد له وجود على وجه الأرض ...
ألا تدركون ذلك ؟؟
ألا تدركون ما فعلتم بي ؟؟
قتلتموني ...
شر قتلة ...


" وليـــــــــــــــــــــد "


كان هذا صوت رغد ... يخترق أذني ... و رأسي ... و قلبي ... و كل خلية ... و كل ذرة من جسدي ...


لم أستطع أن أقاوم ... التفت نحو الوراء و لم أر شيئا ... غير طفلة صغيرة ... ضئيلة الحجم ... دائرية الوجه ... واسعة العينين ... خفيفة الشعر ... يتدلى شعرها القصير الأملس على جانبيها بعفوية ... ترفع ذراعيها نحوي بدلال و تقول :

" وليـــــــــــــــد ... احملني ! "

" رغد ... تعالي ! "

رأيت شبحها يقبل نحوي ... راكضا ... ضاحكا ... حاملا في يده اليمنى دفتر تلوين ... و في الأخرى صندوق الأماني ... و يمد ذراعيه إلي ...
فأطير به إلى الهواء ...
إلى الفضاء ...
إلى السماء ...
إلى حيث ترتفع أرواح الموتى ...
و تصعد دعوات المعذبين ...

يا رب ...
أتوسل إليك ...
أرجوك ...
خذني إليك ...



.......








التوقيع

.
.
.




ليس الوجع في أيام الفقد الأولى ، بل حين تأتي الأيام السعيدة
فتجد أنّ من يستطيع مشاركتك فرحتك بشكل أكبر و أعمق قد رحل ..!!










.
.

رد مع اقتباس
قديم 27-05-2009, 05:32 AM   #15
بيادر الحب
المراقب العــام
الصورة الرمزية بيادر الحب

المعلومات





آحدث المواضيع


الاتصال

بيادر الحب غير متصل

بيادر الحب تم تعطيل التقييم
افتراضي رد: [ أنت لي ] رواية جميلة للكاتبة / تمرحنا

الجزء الرابع عشر





طريق العودة لم يكن بأقل مشقة من طريق الذهاب ...
ألا أنني بسبب التعب و الإجهاد النفسي نمت معظم ساعات النهار الأول .

حطام الأشياء التي أراها من حولي لا يختلف عن حطام قلبي ... إلا أن الجماد لا ينزف دما

التلاوة المنبعثة من مذياع السيارة بصوت قارئ رخيم عذب هي الشيء الوحيد الذي خفف على قلبي آلام التمزق و التقطع و الاحتراق ...

توالت الساعات ، و كنت أتابع باهتمام مزيف كل ما أسمعه من المذياع هروبا من التفكير في الطريق الذي ولى ... و الطريق القادم ...

في الماضي ... و المستقبل ...

بلغنا مدينتنا قبيل غروب الشمس الثالثة التي أنارت دربنا ...

" خذني إلى بيتي "

قلت ذلك و نحن أمام مفترق طرق ، يؤدي أحدهم إلى بيتي و آخر إلى بيت سيف

" الآن ؟ دعنا ننزل بيتنا و نرتاح من عناء المشوار الطويل ... "

" أرجوك يا سيف ... إلى بيتي ... "

لم أكن هذه المرة أشعر بأي شوق أو حماس لدخول المنزل المهجور

و سيف هم ّ بالحضور معي أل أنني قلت :

" لابد أن والديك في انتظارك الآن ... سأشكرك كما ينبغي لاحقا ، بلغهما تحياتي "

كان سيف قلقا بشأني و لكنني صرفته ، و دخلت المنزل المظلم وحيدا .

رفعت يدي لإنارة المصباح ، بل المصابيح واحدا تلو الآخر فاكتشفت أن الكهرباء مقطوعة .

و على الضوء الباقي من آخر خيوط الشمس ، سرت في منزلي الكئيب الساكن و صعدت إلى الطابق العلوي ...

ذهبت رأسا إلى غرفة نومي ... أخرجت المفاتيح ، ثم فتحت الباب ببطء ...

و خطوت خطوة إلى الداخل ...

سرعان ما عادت بي السنين إلى الوراء ...

حين كنت فتى مراهقا في بداية التاسعة عشر من العمر ... أجلس على هذا الكرسي أذاكر بشغف ...
يا إلهي !
لا تزال كتبي التي تركتها على المكتب في مكانها !
مفتوحة كما تركتها قبل ثمان سنين !

جلت ببصري في الغرفة ... و فوجئت برؤية الأشياء كما هي ...

تقدمت خطوة بعد خطوة ...

السرير ... نفس البطانية و الأغطية التي كانت عليه قبل رحيل ...

اقتربت من المكتب ... إنه كتاب الرياضيات الذي كنت أقرأه آخر ليلة قبل الرحيل ، استعدادا لامتحان الغد !

و قلم الرصاص لا يزال موضوعا على الصفحة المفتوحة ...

و بقية الكتب مبعثرة على الطاولة تماما كما تركتها منذ ذلك الزمن ...

مددت يدي فلمست الغبار الذي يغطي الكتاب ، و كل شيء ...

فتحت الأدراج لألقي نظرة ... لا شيء تغير ! لا يبدو أن أحدا قد وطأ أرض هذه الغرفة مذ هجرتها

استدرت نحو سريري ... لطالما احتضنني هذا السرير و امتص تعبي و أرقي ... ألا زال يصلح للنوم ؟ أ أستطيع رمي أثقال صدري و جسدي عليه ؟؟

كان أيضا غارقا في الغبار ... و مع ذلك رميت بجسدي المهموم عليه و سمحت لسحابة الغبار أن تحلق ... و تنتشر ... و تهاجم أنفي و تخنقني أيضا ...

داهمتني نوبة من العطاس إثر استنشاقي لغبار الزمن ، فنهضت و تلفت من حولي بحثا عن علبة المناديل
لابد أنها ستكون مدفونة تحت طبقات من الغبار هي الأخرى ...

لكن أنظاري التصقت فجأة بشيء يقف على أحد أرفف مكتبتي القديمة ...

شيء أسطواني الشكل ، مغطى بطوابع و ملصقات صغيرة طفولية ...

و من بين تلك الملصقات ، يظهر جزء من كلمة مكتوبة عليه : ( أمـاني )

سرت ببطء شديد ، بوصة بوصة ، نحو هذا الصندوق الصغير ...

أكان حلما أم حقيقة ؟؟

لقد رأيته أمامي مباشرة ، و لمسته بيدي ... و رججته ، و سمعت صوت قصاصات الورق تتضارب داخله !

صندوق أماني رغد ... لا يزال حيا ؟؟

أمسكت بالصندوق الأسطواني ، و قربته من عيني ، ثم من صدري ، و أرخيت جفني ، و سحبت نفسا عميقا مليئا بالغبار ...

رأيت الصغيرة مقبلة نحوي بانفعال و فرح ، حاملة كتابها بيدها :

" وليد اصنع صندوق أماني لي "

و رأيتها تساعدني في صناعته ...

ثم تغطيه بالملصقات الصغيرة ...

ثم تجلس هناك على سريري ، قرب المنضدة ، و تكتب أمنيتها الأولى ...

(( عندما أكبر سوف أتزوج ...... ؟؟ ))

عند هذا الحد ... ارتفع جفناي فجأة ، و انقبضت يدي بقوة ... ضاغطة على الصندوق بلا رحمة حتى خنقت أنفاسه ...

تدحرجت عبرة كبيرة حارقة من مقلتي اليمنى ، فاليسرى ، تبعها سيل عارم من الدموع الكئيبة التائهة ، تغسل ما علق بوجهي و أنفي من الغبار العتيق ...

شقت نظرتي طريقا سالكا بين الدموع ، مسافرة نحو صندوق الأماني المخنوق ... محرضة يدي ّ على التعاون للفتك به ... و تمزيقه كما تمزقت كل آمالي و أحلامي ... و صورة رغد و رسالتها ... و قلبي و روحي ...

لكنني توقفت في منتصف الطريق ...

لم أعد أرغب في رؤية ما بداخله ...

فأنا أعرف كل شيء ...

( أريد أن أصبح رجل أعمال ضخم ! )

( أريد أن تصبح ابنة عمي رغد زوجة لي )

( يا رب اشف سامر و أعده كما كان )

( عندما أكبر سوف أتزوج .... ؟؟؟ )

سامر قطعا ...

كم كنتُ غبيا !

ضغطت على الصندوق بقوة أكبر فأكبر ... و لو كان شيئا مصنوعا من الحديد لتحطم في قبضتي ...

" أيتها الخائنة ... رغد "

رميت الصندوق بعنف بعيدا عني ... إلى أبعد زاوية في الغرفة ، ثم خرجت هاربا من الذكرى الموجعة

أول شيء التقيت به في طريقي كان غرفة رغد !

فهي الأقرب إلي ...

وقفت عند الغرفة لدقائق ... و يدي تفتش عن المفتاح بتردد ...

رفعت يدي ... و طرقت الباب طرقا خفيفا

ثم مددتها نحو المقبض و أمسكت به و بقيت في هذا الوضع لزمن طويل ...

سأفتح الباب ببطء و حذر و هدوء ... قد تكون صغيرتي نائمة بسلام ... لا أريد إزعاجها

أريد فقط أن ألقي نظرة عليها كما أفعل كل ليلة ... لا أحب إلى قلبي من رؤيتها نائمة بهدوء كالملاك .. و ملامسة شعرها الناعم بخفة ...

نظرة أخيرة ... واحدة فقط ... أريد أن ألقيها على طفلتي ...

رغد ... لقد اشتقت إليك كثير! ... منذ أن رأيتك و أنت نائمة ... هنا قبل ثمان سنين ، و جفناك متورمان أثر البكاء الشديد الذي بكيته ذلك اليوم المشؤوم ...

أتذكرين كيف لعبنا يومها ؟؟

أتذكرين البطاطا التي أطعمتك إياها ...؟؟

ما كان يدريني أننا لن نلتقي بعد تلك اللحظة ...

و أنها كانت المرة الأخيرة التي أتسلل فيها إلى غرفتك ، و ألقي عليك نظرة ، و أداعب خصلات شعرك ، و أقبل جبينك ...

ارتجفت رجلاي و كذا يداي و جسمي كله ، و فقدت أي قدرة على تحريك أي عضلة في جسدي ، حتى جفوني

لم أجسر على فتح الباب ...

عدت أطرقه و أنادي ...

" رغد ... صغيرتي ... افتحي ! أنا وليد ... "

لكنها لم تفتح

و أخذت أطرق بقوة أكبر ...

" افتحي يا رغد ... لقد عدت إليك "

و بقي الباب ساكنا جامدا ...

لم تعد رغد موجودة

و لم يعد وليد موجودا ...

و لم يعد لفتح هذا الباب ... أي داع ...

هويت على الأرض ... كسقف أزيلت أعمدته فجأة ... و رفعت ذراعي إلى الباب و صرخت ...

" رغد ... عودي إلي ... "













~ ~ ~ ~ ~ ~ ~










من تتوقعون زارنا قبل أسبوع ؟؟

إنها عائلة اللاعب الشهير ( نوّار ) !

و هل استنتجتم ما سبب الزيارة ؟؟

أجل !

مشروع زواج !

بصراحة أنا فوجئت بشدة ! لم أكن أعتقد أن الأمر سيسير حسبما كانت دانة ترسم ! و لكن يبدو أن هناك أمور أخرى لا أعلم عنها شيئا ...

زيارتهم كانت بعد رحيل وليد بثلاثة أسابيع ...

خلال الأسابيع الثلاثة تلك ، كان الجميع يعيش حالة كآبة و حزن مستمرين

لم تطلع أو تغرب علي شمس دون أن أفكر بوليد ... و بلقائنا الحميم ، ثم نظراته القاسية ، ثم رحيله المفاجئ ...

والدتي أصابها حزن شديد لازمت بسببه الفراش فترة من الزمن ...

أنا أيضا حزنت كثيرا جدا ...

أنا لم أكد أره ... لم أكد أشعر بوجوده ... إنني لا أصدق أنه عاد بالفعل ... لقد كبرت على الاعتقاد بأنه لن يعود ...

و حقيقة ... هو لم يعد ...

" رغد ! ألم تنهي حمّامك بعد ؟؟ "

جاءني صوت دانة من الخارج ، تحثني على الخروج بأقصى سرعة ... كنت لا أزال أمشط شعري القصير المبلل أمام المرآة المغطاة بطبقة من الضباب !

فتحت الباب فانطلق بخار الماء متسربا للخارج ، و وجدت دانة واقفة و ذراعاها مضمومان إلى صدرها ، تنظر إلي بحنق !

" أهو حمام بخاري ؟ هيا اخرجي يكاد ضيوفي يصلون و أنا لم أستعد بعد ! "

سرت ببطء شديد ، متعمدة الإطالة أقصى ما يمكن ... ! دانة تحدق بي بغضب و نفاذ صبر و تصرخ :

" أوه يا لبر ودك ! هيا أخرجي ! "

" لم كل هذا الانفعال !؟ كأنك ستقابلين جلالة الملكة ! "

" أنت لا تفهمين شيئا ! لا يمكنك أن تحسي بمثل أحاسيسي الآن ! لم تجربي ذلك و لن تجربيه ! "

قالت هذا ثم دفعتني قليلا بعيدا عن الباب ، و دخلت الحمام الغارق في البخار و صفعت بالباب بقوة !

ذهبت إلى غرفتي بكسل ... و أخذت أتابع تمشيط شعري المبلل أمام مرآتي ...

هل تحس كل فتاة على وشك مقابلة أهل عريسها بكل هذا التوتر ؟؟
أنهم سيعلنون الموافقة الرسمية و يناقشون شروط العقد هذه الليلة ، و سنقيم حفلة صغيرة بعد أيام لعقد القران ...

دانة أصبحت لا تطاق بسبب توترها و عصبيتها ، لكنها سعيدة ! سعيدة جدا ...

أنا لم أجرب هذا الإحساس ... و لا أعرف كيف يكون ... إنني فقط أعرف أنني مخطوبة لابن عمي سامر لأنني يجب أن أكون مخطوبة له ...
و سأتزوج منه لأنني يجب أن أتزوج منه ...

سامر في الوقت الحالي مسافر إلى مدينة أخرى ، من أجل العمل

موضوع زواجنا تم تأجيل النقاش فيه ، بسبب حضور و رحيل وليد الذي أربك الأجواء ، ثم خطبة دانه التي شغلتنا أواخر الأيام ...

وليد لم يتصل بنا منذ رحيله ، و والدي يحاول جاهدا الاتصال به بطريقة أو بأخرى من أجل إبلاغه عن خطبة دانه و حفلة العقد

مجرد تفكيري بهذا الأمر يشعرني بالسعادة ... فوليد سيأتي و لا شك ... لحضور حفلة شقيقته و المشاركة فيها ...

ألقيت بالمشط جانبا و خرجت من الغرفة في طريقي إلى المطبخ ، و وصلني صوت دانه و هي تغني داخل دورة المياه !

أنا لم أغنِّ عند خطبتي !

حين وصلت ، كانت أمي تتبادل الحديث مع والدي بشأن دانه ... لكنهما توقفا عن الكلام لدى رؤيتي !

" أمي ... ماذا عن وليد ؟؟ "

فهو كان شغلي الشاغل منذ أن رحل ...
بل منذ أن وصل !
أمي و أبي تبادلا نظرة سريعة ، قال والدي بعدها :

" لقد استطعت التحدث إلى سيف ، و أوصيته بزيارة وليد بأسرع ما يمكنه ، و إبلاغه بأنتا ننتظر مكالمة ضرورية منه "

فرحت بذلك ، و قلت تلقائيا :

" إذن سأعتكف عند الهاتف ! "

في ذات اللحظة رن هذا الأخير ، و قفزت مسرعة إليه !

" مرحبا ! هنا منزل شاكر جليل ... من المتحدث ؟ "

كانت ابتسامتي تعلو وجهي ، و حين وصلني صوت الطرف الآخر :

" رغد ! أهذه أنت ؟؟ "

تلاشت الابتسامة بسرعة ، و قلت بشيء من الخيبة :

" نعم ... سامر ، إنها أنا "

و بعد بضع عبارات تبادلناها ، دفعت بالسماعة إلى والدي :

" إنه سامر ... لن يحضر الليلة "

و انصرفت عن المطبخ .
حين سافر سامر ... لم أبك كما بكت أمي ...
و كما بكيت لسفر وليد ...

لم يكن هناك أي هاتف في غرفة نومي ، لذا جلست في غرفة المعيشة قريبة من التلفاز ، و كلما رن هاتف بادرت برفع السماعة قبل أن تنقطع الرنة الأولى !
و في كل مرة أصاب بخيبة أمل ....
لكن ...
لماذا أنا متلهفة جدا للتحدث إليه ؟؟

بعد فترة ، حضر الضيوف المرتقبون ، العريس و والداه و أفراد أسرته .. لو أؤلف كتابا في وصف دانه لسببت أزمة ورق !

سألخص ذلك بقول : كانت غاية في الجمال ، و الخجل ، و اللطف ، و السعادة !

تم الاتفاق على كل شيء ، و تعين تحديد ليلة الخميس المقبلة لعقد القران !

لم أجلس مع ضيفاتنا غير دقائق متفرقة ، و تمركزت عند الهاتف في انتظار اتصال من اتصل رجال العالم كلهم ببيتنا سواه !

عند العاشرة و النصف ، استسلمت ...
و ذهبت في اتجاه غرفتي ..
مررت بغرفة دانه ، فوجدتها مشغولة بإزالة المساحيق و الإكسسوارات التي تزين بها شعرها !

" كنت جميلة ! "

نظرت إلي بغرور ، و قالت :

" اعرف ! "

ثم استطردت :

" و سأكون أجمل في الحفلة ! علي أن أذهب للسوق غدا لشراء الحاجيات ! "

" عظيم ! أنا أيضا سأشتري فستانا جديدا و بعض الحلي ! "

ابتسمت دانه بسعادة ، و قالت :

" كم أنا متوترة و قلقة ! ستكون حفلة رائعة "

ثم أضافت ببعض الخبث :

" أروع من حفلتك "

لم أكن في السابق أتضايق كثيرا لتعليق كهذا ، إلا أنني الآن شعرت بالانزعاج ... قلت :

" أنا لم تقم لي حفلة حقيقية ... لم يكن يوما مميزا "

قالت :

" وضعي أنا يختلف ! سأتزوج من أشهر لاعبي الكرة في المنطقة ، و أغناهم أيضا ... شيء مميز جدا ! ... والدي وعدني بليلة لا تنسى ! "

أصابني كلامها بشيء من الخذلان و الحزن ، فأنا لم يعمل والدي لأجلي شيئا يذكر ليلة عقد قراني ... هممت بالانصراف ، توقفت قبل أن أغلق الباب ، و سألت :

" هل سيكون وليد موجودا ؟؟ "

شيء ما برق في عينيها و قالت :

" نعم ، بالتأكيد سيكون موجودا ... لا يمكنه أن يتخلى عني أنا ! "

ذهبت إلى غرفتي و أنا حزينة ...
فوليد لم يتصل
و دانه تسخر مني
و من الطريقة التي تمت خطبتي بها ...
رغم أنها كانت أكثر من أقنعني بأنه لابد لي من الزواج من سامر ...
فهو أقرب الناس إلي ، و هو يحبني كثيرا ، و هو مشوه بشكل يثير نفور
بقية الفتيات ...
و بسببي أنا ...







~ ~ ~ ~ ~ ~ ~





فيما كنت أسخن بعض الفاصوليا على لهيب الموقد في المطبخ ، حضر صديقي سيف .

لم أكن أتوقع زيارته ،كانت الساعة السادسة مساءا ، لكنني سررت بها

" تفضل ! إنني أعد بعض الفاصوليا ... عشاء مبكر ! ستشاركني فيه "

قلت ذلك و أنا أقوده إلى المطبخ ...

حينما وصل و شم رائحة الفاصوليا قال بمرح :

" تبدو شهية ! سأتناول القليل فقط ، فلدي ضيوف على العشاء هذا المساء "

وضعت مقدارين منها في طبقين صغيرين ، مددت بأحدهما نحو صديقي و قلت :

" جرب طهو ـ أو بالأحرى تسخين يدي ! "

تناول سيف بعضها و استساغ الطعم ... ثم قال :

" لكنها لا تقارن بأطباق والدتي ! يجب أن تشاركنا العشاء الليلة يا وليد "

ابتسمت ابتسامة باهتة ، و لم أعلق ...

" هيا يا وليد ! سأعرفك على زملائي و أصدقائي في العمل "

قلت :

" كلا لا يمكنني ، لدي ارتباطات أخرى "

سيف نظر إلي باستنكار ...

" أية ارتباطات ؟؟! "

ابتسمت و قلت :

" سآخذ الأطفال إلى الملاهي ! فقد وعدتهم بذلك "

سيف كان يحرك الملعقة باتجاه فمه ، فتوقف في منتصف الطريق و قال :

" أي أطفال ؟؟ "

قلت بابتسام و أنا أقلب الفاصوليا في الطبق لتبرد قليلا :

" رغد و دانة و سامر ! سأجعلهم يستمتعون بوقتهم ! "

أعاد سيف الملعقة و ما حوت على الطبق ... و ظل صامتا بضع ثوان ...

" ما بك ؟ ألم يعجبك ؟ "

أعني بذلك الفاصوليا

سيف تنهد ثم قال :

" وليد ... ما الذي تهذي به بربك ؟؟ "

تركت الملعقة تنساب من يدي ، و قد ظهرت علامات الجدية على وجهي الكئيب و قلت :

" أتخيل أمورا تسعدني ... و تملأ فراغي ... "

هز سيف رأسه اعتراضا ، و قال :

" ستصاب بالجنون إن بقيت هكذا يا وليد ! بل إنك أصبت به حتما ... ينبغي أن تراجع طبيبا "

دفعت بالكرسي للوراء و أنا أنهض فجأة و استدير موليا سيف ظهري ...
سيف وقف بدوره ، و تابع :

" لا تفعل هذا بنفسك ... أتريد أن تجن ؟؟ "

استدرت إلى سيف ، و قلت :

" ما الفرق ؟ لم يعد ذلك مهم "

" كلا يا وليد ... لا تعتقد أن الدنيا قد انتهت عند هذا الحد ... لا يزال أمامك المستقبل و الحياة "

قاطعته بحدّة و زمجرت قائلا :

" المستقبل ؟؟ نعم المستقبل ... لرجل عاطل عن العمل متخرج من السجن لا يحمل سوى شهادة الثانوية المؤرخة قبل ثمان سنين ! و يخبئ بعض النقود التي استعارها من أبيه في جيب بنطاله ليشتري بها الفاصولياء المعلبة فيسد بها جوعه ... نعم إنه المستقبل "


سيف بدأ يتحدّث بانفعال قائلا :

" تعرف أن فرص العمل في البلد ضئيلة بسبب الحرب ، لكنني سأتدبر الأمر بحيث أتيح الفرصة أمامك للعمل معي ... "

قلت بسرعة :

" معك ؟ أم عندك ؟؟ "

استاء سيف من كلمتي هذه و همّ بالانصراف .

استوقفته و قدمت إليه اعتذاري ...

لقد كان اليأس يقتلني ... و لا شيء يثير اهتمامي في هذه الدنيا ...

قال سيف :

" المزيد من الصبر ... و سترى الخير إن شاء الله "

ثم تقدّم نحوي و قال :

" و الآن ... تعال معي ... فالأشخاص الذين سيتناولون العشاء معنا سيهمك التعرف إليهم "

لكنني رفضت ، لم أشأ أن أظهر أمام رجال الأعمال و أحرج صديقي ، لكوني شخص تافه خرج من السجن قبل أسابيع ...

" كما تشاء ... لكنك ستحضر غدا ! عشاء خاص بنا نحن فقط ! "

أومأت إيجابا ، إكراما لهذا الصديق الوفي ...

قال سيف :

" يا لك من رجل ! لقد أنسيتني ما جئت لأجله ! "

" ما هو ؟؟ "

" تلقيت اتصالا من والدك اليوم ، يريد منك أن تهاتفه للضرورة "

شعرت بقلق ، فلأجل ماذا يريدني والدي ؟؟

" أتعرف ما الأمر ؟؟ "

" لا فكرة لدي ، لكن عليك الاتصال بهم فورا "

و أشار إلى الهاتف المعلق على الجدار ...

قلت :

" الخط مقطوع ! "

" حقا ؟؟ "

" كما كانت الكهرباء و المياه أيضا ! تصور أنني عشت الأيام الأولى بلا نور و لا ماء ! "

ضحك سيف ثم قال :

" معك أنت يمكنني تصور كل شيء ! هل تريد هاتفي المحمول ؟ "

" لا لا ، سأتصل بهم من هاتف عام "

سار سيف نحو الباب مغادرا ، التفت قبل الانصراف و قال :

" موعدنا غدا مساءا ! "

" كما تريد "


و عدت إلى طبقي الفاصوليا التي بردت نوعا ما ، و أفرغتهما في معدتي ...

لم يكن في المنزل أي طعام ، و كنت اشتري المعلبات و التهم منها القدر الذي يبقيني حيا ...

تعمدت عدم الاتصال بأهلي طوال الأسابيع الماضية ، و عشت مع أطيافهم داخل المنزل

حاولت البحث عن عمل و لكن الأمر كان أصعب من أن يتم في غضون بضع أسابيع أو أشهر ...

في ذلك المساء ذهبت إلى أحد المحلات التجارية لشراء بعض الحاجيات ، قبل أن أجري المكالمة الهاتفية .

حين حان دوري للمحاسبة ، أخذ المحاسب يدقق النظر في ّ بشكل غريب !

نظرت إليه باستغراب ، فقال :

" ألست وليد شاكر ؟؟ "

فوجئت ، فلم يبد ُ لي وجه المحاسب مألوفا ... قلت :

" بلى ... هل تعرفني ؟؟ "

قال :

" و هل أنساك ! متى خرجت من السجن ؟؟ "

عندما نطق بهذه الجملة أثار اهتمام مجموعة من الزبائن فأخذوا ينظرون باتجاهي ...

شعرت بالحرج ، و تجاهلت السؤال ... فعاد المحاسب يقول :

" ألم تعرفني ؟ لقد كنت ُ زميلا للفتى الذي قتلته ! عمّار "

أخذ الجميع ينظر باتجاهي ، و شعرت بالعرق يسيل على صدغي ...

جاء صوت من مكان ما يقول :

" أ تقول أن المجرم قد خرج من السجن ؟؟ "

تلفت من حولي فرأيت الناس جميعا ينظرون إلي بعيون حمراء ، يقدح الشرر من بعضها ، و ينطلق الازدراء من بعضها الآخر ...

شعرت بجسمي يصغر ... يصغر ... يصغر ... ثم يختفي ...

خرجت من المكان بسرعة ... دون أن آخذ حاجياتي ، و ركبت سيارتي و انطلقت مسرعا تشيعني أنظار الجميع ...

لقد أصبحت ذا سمعة سيئة تشير إلي أصابع الناس بلقب مجرم ...

توقفت عند أحد الهواتف العامة ، و اتصلت بمنزل عائلتي في المدينة الأخرى ...

كانت الساعة حينئذ الحادية عشر ... و رن الهاتف عدة مرات و لم يجب أحد ...

و أنا واقف في مكاني أراقب بعض المارة ، تخيلتهم ينظرون إلي و يتحدثون سرا ...

ربما كانوا يقولون : إنه وليد المجرم !

و مرت مني سيارة شرطة تسير ببطء ...

شعرت برعشة شديدة تسري في جسدي لدى رؤيتها ، كانت النافذة مفتوحة و أطل منها الشرطي و أخذ ينظر باتجاهي

كدت أموت فزعا ... و تخيلته مقبلا نحوي ليقبض علي و يزج بي في السجن من جديد ...

شعور مرعب مفزع ...

ظلت يدي تضغط على أزرار عشوائية ، تتصل ربما بالمريخ أو المشتري ، دون أن أملك القدرة على التحكم بها ... حتى ابتعدت السيارة شيئا فشيئا و استعدت بعض الأمان ...

أعدت الاتصال بمنزل عائلتي و بعد ثلاث رنات أو أربع ، أجاب الطرف الآخر ...

" نعم ؟ "

لم أميز الصوت في البداية ، لكنه عندما كرر الكلمة أدركت أنها كانت رغد ...

" نعم ؟ من المتحدث ؟؟ "

كان فكي الأسفل لا يزال يرتجف أثر رؤية سيارة الشرطة ... و ربما سمعت رغد صوت اصطكاك أسناني بعضها ببعض ...

قربت السماعة من فمي أكثر ، و بيدي الأخرى أمسكت بفكي و طرف السماعة كمن يخشى تسرب صوته للخارج ...

ربما سمع رجال الشرطة صوتي و عادوا إلي !

قلت :

" أنا وليد "

لم أسمع أي صوت فظننت أن الطرف الآخر قد أقفل السماعة ، قلت :

" رغد ألا زلت ِ معي ؟؟ "

" نعم "

ارتحت كثيرا لسماع صوتها

أو ربما ... تعذبت كثيرا ...

" وليد كيف حالك ؟ "

" أنا بخير ، ماذا عنكم ؟ "

" بخير . كنت أنتظرك ، أقصد كنا ننتظر اتصالك "

قلت بقلق :

" ما الأمر ؟؟ "

رغد قالت :

" لقد نام الجميع ، والدي يريد التحدث معك ، يجب أن تحضر "

أقلقني حديثها أكثر ، سألت :

" ما الخطب ؟؟ "

" إنه موضوع زواج دانه ! لن أخبرك بالتفاصيل و إلا وبختني ! يجب أن تحضر قبل مساء الأربعاء المقبل "


كان أمرا فاجأني ، و هو أكبر من أن أناقشه مع رغد و رغد بالذات على الهاتف في مثل هذا الوقت ... و المكان ...

لذا اختصرت المكالمة بنية الاتصال نهار اليوم التالي لمعرفة التفاصيل ...

" حسنا ، سأتصل غدا ... إلى اللقاء "

" وليد ... "

حينما سمعت اسمي على لسانها ارتجف فكي أكثر مما كان عند رؤية سيارة الشرطة ....

خرجت الكلمة التالية مبعثرة الحروف ...

" نـ ... ـعم ... صـ ... ـغيـ ... ـرتي ؟؟ "

" عد بسرعة ! "

و التي عادت بسرعة هي ذكريات الماضي ...
و الذي طردها بسرعة هو أنا
لم أكن أريد لشيء قد مات أن يعود للحياة ...

قلت :

" سأرى ، وداعا "

و بسرعة أيضا أغلقت السماعة ...
كم شعرت بقربها ... و بعدها ...


حينما عدت إلى المنزل ، وقفت مطولا أمام غرفة رغد أحدق ببابها ... حتى هذه اللحظة لم أجرؤ على فتحها هي بالذات من بين جميع غرف المنزل الموحش ...

دخلت إلى غرفتي الغارقة في الظلام ، و تمددت على سريري بهدوء ...

( عد بسرعة ... عد بسرعة ... عد بسرعة ... )

ظلت تدور برأسي حتى حفرت فيه خندقا عميقا !

سمعت طرقا على الباب ... طرقا خفيفا ... جلست بسرعة و ركزت نظري ناحية الباب ... كان الظلام شديدا ...

شيئا فشيئا بدأ الباب ينفتح ... و تتسلل خيوط الضوء للداخل

و عند الفتحة المتزايدة الحجم ، ظهرت رغد !

رغد وقفت تنظر إلي و وجهها عابس ... و الدموع منحدرة على خديها الناعمين ...

هتفت ...

" رغد ! "

بدأت تسير نحوي بخطى صغيرة حزينة ... مددت ذراعي و ناديتها :

" رغد تعالي ... "

لكنها توقفت ... و قالت :

" وليد ... عد بسرعة "

ثم استدارت عائدة من حيث أتت

جن جنوني و أنا أراها تغادر

قفزت عن سريري و ركضت باتجاهها و أنا أهتف :

" رغد انتظري ...
رغد لقد عدت ...
رغد لا تذهبي "

لكنني عندما وصلت إلى الباب كانت قد اختفت ...

أسرعت إلى غرفتها أطرق بابها بعنف ...
كدت أكسره ، أو أكسر عظامي ... لكنه ظل موصدا ...
كما هي أبواب الدنيا كلها أمام وجهي ...


أفقت من النوم مذعورا ، فوجدت الغرفة تسبح في الظلام و الباب مغلق ...
لم يكن غير كابوس من الكوابيس التي تطاردني منذ سنين ...

و رغم أنها تعذبني ، إلا أنها تمنحني الفرصة لرؤية صغيرتي التي حرمت منها منذ سنين ... و لم يعد لها وجدود ...

في اليوم التالي ، اتصلت بوالدي و عرفت منه تفاصيل الموضوع ... و لكم أن تتصوروا اللهفة التي كان هو و أمي و دانة أيضا ... يخاطبوني بها

أختي الصغيرة ... التي كبرت بعيدا عن أنظاري و رعايتي و اهتمامي ، أصبحت عروسا

" وليد يجب أن تحضر و تجلب لي هدية أيضا ! "

و الآن ... و بعد مرور شهر واحد من هروبي منهم ، و عزلتي في المنزل، صار علي أن أعود إليهم من جديد ... أجر أذيال الخيبة و الفشل ...

في المساء ، ذهبت لسيف و أخبرته بما جد من أمري ، و أخبرني بأنه استطاع تدبير وظيفة لي في الشركة التي يعمل فيها و يملك جزءا منها

و بدأ أول أبواب الدنيا ينفتح أمامي أخيرا ...

" يجب أن تعود بأسرع ما يمكن لتباشر العمل "


...................






التوقيع

.
.
.




ليس الوجع في أيام الفقد الأولى ، بل حين تأتي الأيام السعيدة
فتجد أنّ من يستطيع مشاركتك فرحتك بشكل أكبر و أعمق قد رحل ..!!










.
.

رد مع اقتباس
قديم 27-05-2009, 05:36 AM   #16
بيادر الحب
المراقب العــام
الصورة الرمزية بيادر الحب

المعلومات





آحدث المواضيع


الاتصال

بيادر الحب غير متصل

بيادر الحب تم تعطيل التقييم
افتراضي رد: [ أنت لي ] رواية جميلة للكاتبة / تمرحنا

الجزء الخامس عشر




أكاد أطير من الفرح ... لأن وليد سيأتي اليوم ...

إنني منذ وقعت عيناي عليه يوم حضوره قبل شهر ، و أنا أحس بشيء غريب يتحرك بداخلي !

أهي كريات الدم في عروقي ؟؟

أم شحنات الكهرباء في أعصابي ؟؟

أم تيارات الهواء في صدري ؟؟

بين الفينة و الأخرى ، أخرج إلى فناء المنزل ... و أترقب حضوره

متى سيصل ؟؟

سامر أيضا سيعود هذه الليلة ، فمنذ سافر للمدينة الأخرى قبل أسابيع من أجل العمل لم نره ...

استدرت للخلف ، فإذا بأمي واقفة عند المدخل الرئيسي ، تنظر إلي !

" رغد ... ما ذا تفعلين ؟؟ "

اضطربت قليلا ، ثم قلت :

لا شيء ...

والدتي ابتسمت ، و قالت :

" لقد قال سامر إنه سيصل ليلا ! لا تُقلقي أعصابك ! "

شعرت بغصة في حلقي و كدت أختنق !

إنني لم أر سامر منذ أسابيع ... و أعلم أنه سيعود ليلا ... لكنني ... لكنني كنت أرتقب وليد !

كان هذا يوم الأربعاء ... ، و في هذا المساء سيتم عقد قران دانة ...

إنها مشغولة جدا هذا اليوم ، و كذلك هي أمي ... و الاضطراب يسود الأجواء ...

" تعالي و ساعدينا ! "

ألقيت نظرة على الباب الخارجي للمنزل ، و مضيت مذعنة لطلب أمي !

كانت دانة تجفف شعرها بمجفف الشعر الكهربائي المزعج ، قلت :

" فيم أساعدك ؟؟ "

و يبدو أن صوته الطاغي منعها من سماعي ، فكررت بصوت عال :

" دانة فيم أساعدك ؟؟ "

انتبهت لي أخيرا ، و قالت :

" تعالي رغد و جففي هذا المتعب ! "

دانة كان لها شعر طويل و كثيف مع بعض التموج ، على العكس من شعري القصير الأملس الناعم !

تناولت المجفف الساخن من يدها و بدأت العمل !

صوت هذا الجهاز قوي و أخشى أن يعيق أذني عن سماع صوت جرس الباب !

مرت الدقائق و أنا أحاول الإسراع من أجل العودة للفناء !

" رغد ! جففي بأمانة ! "

قالت ذلك دانة و هي تنظر إلي عبر المرآة ... فابتسمت !

فستان دانة كان جميلا و أنيقا جدا ، و موضوعا على سريرها بعناية
لدانة ذوق رائع جدا في اختيار الملابس و الحلي و أدوات التجميل !


لدى عبور هذه الفكرة برأسي تذكرت طقم الحلي الذي رأيته ليلة الأمس و أثار إعجابي الشديد و أردت اقتنائه ، غير أن نقودي لم تكن كافية فأجلت الأمر لهذا اليوم

" يجب أن أذهب مع آبى لشراء ذلك الطقم قبل أن يحل الظلام ! "

" حقا ستشترينه ؟ إنه باهظ الثمن ! "

" طبعا سأشتريه ! ماذا سأضع هذه الليلة إذن ؟؟ "

" لم لا تضعين العقد الذي أهدتك إياه والدتي قبل أسابيع ؟؟ "

لم تعجبني الفكرة ، فلقد رأته لمياء ـ شقيقة نوّار ، خطيب دانة ـ يوم حفلة تخرجي !

إنها أمور نكترث لها نحن الفتيات !

أو على الأقل ، معظمنا !

قلت :

" بل سأشتري شيئا جديدا ! يليق بقرانك ! "

و ضحكنا !

لمحت والدتي مقبلة من ناحية الباب فأوقفت تشغيل الجهاز و قلت بسرعة :

" هل حضر ؟ "

ثم أضفت بسرعة ، تغطية على الحقيقة :

" أقصد والدي ؟ أريد أن يصحبني لسوق المجوهرات ! "

قالت والدتي :

" ماذا تودين من سوق المجوهرات ؟؟ "

" سأشتري عقدا جديدا أرتديه الليلة ! "

بدا على والدتي بعض الاستياء ... ثم قالت :

" أليس لديك ما يناسب ؟ سأعيرك مما عندي إن شئت "

عرفت من طريقة كلامها أنها لا تريد مني شراء المزيد .

أعدت تشغيل الجهاز و واصلت تجفيف شعر دانة الطويل حتى انتهيت ... بصمت ...
بعدها خرجت من الغرفة قاصدة الذهاب إلى غرفتي ، إذ أن بي شحنة استياء أريد إفراغها ...

و أنا أمر من والدتي قالت :

" رغد اذهبي للمطبخ و أتمي تحضير الكعك ، سأوافيك بعد قليل "

أذعنت للأمر ... و قضيت قرابة الساعة في عمل المطبخ الممل ، حتى أتت والدتي وتقاسمنا العمل ...

بعد فترة همت بالانصراف ، فبالي مشغول بانتظار وليد ، و حين رأتني أمي سائرة نحو الباب :

" إلى أين رغد ؟؟ "

" سأذهب للاستحمام ! "

" انتظري ! تعرفين ما من مساعد لي غيرك اليوم ... ! اغسلي الأطباق و الصواني و رتبي الأواني في أماكنها ، ثم تولي كي و طي الملابس ! العمل كثير هذا اليوم ! "

شعرت بالضيق ! لم أكن أحب العمل في المطبخ و كنت أتولى أقل من ثلث العمل المقسم بيننا نحن الثلاث ، أمي و دانة و أنا ، لكنني اليوم مضطرة للتضحية بنعومة يدي !

أثناء ترتيبي للأواني سمعت صوتا مقبلا من جهة مدخل المنزل الرئيسي

ربما يكون وليد !

أسرعت بوضع الأواني على عجل فانزلق من يدي بعضها و تحطم على الأرضية الملساء الصلبة !

" أوه رغد ! ماذا فعلت ! "

والدتي نظرت إلي بانزعاج ، فزاد ضيقي ..

" انزلقت من يدي ! "

و تركت كل شيء و هممت بالانصراف

" إلى أين ؟؟ "

" سأرى من عند الباب أمي ! "

و لم أكد أغادر ، إذ أن والدي قد وصل ، و دخل المطبخ يحمل الكثير من الأغراض

عدت إلى الأواني المحطمة أرفعها عن الأرض و أنظف الأرضية من شظايا الزجاج

ثم كان علي ترتيب الأغراض التي جلبها أبي في أماكنها المخصصة ... و الكثير الكثير قمت به فيما دانة في غرفتها ، تسرح شعرها و تتزين !

حالما انتهيت من جزء من عمل المطبخ ، قلت لوالدي و الذي كان يجلس على المقعد عند الطاولة يكتب بعض الملاحظات على ورقة صغيرة :

" أبي ... هل لا اصطحبتني إلى أحد محلات الحلي ؟ لي حاجة سأشتريها و أعود "

أمي نظرت إلي و قالت مباشرة :

" عدنا لذلك ؟ خذي ما تشائين من حليي و لا داعي لإضاعة المال و الوقت ! لدينا الكثير لنفعله الآن ! "

قلت :

" و لكن ... إنه جميل جدا و أريد أن أرتديه الليلة ! "

قالت :

" هيا يا رغد ! عوضا عن ذلك رتبي الملابس أو غرفة الضيوف و الصالة ... النهار يودعنا "

لم أناقش أمي ، بل نظرت إلى أبي و هو منهمك في تدوين كلمات على الورقة و قلت :

" أبي ... لن أتأخر ! سأشتريه و نعود فورا ! "

والدي قال دون أن يرفع عينيه عن الورقة :

" فيما بعد رغد ، لدي مهام أخرى أقوم بها الآن "

خرجت من المطبخ و أنا أشعر بالخيبة و الخذلان ... و ذهبت إلى الغرفة الخاصة بالملابس ، أكويها و أطويها و أرتبها ، و دمعة تتسلل من بين حدقتي من حين لآخر ...

كنت أكوي فستاني الجديد الذي سأرتديه الليلة بشرود و أسى ...

لماذا علي أن أعمل بهذا الشكل !؟

لماذا لا يجلب والدي خادمة للمنزل ؟؟

هنا سمعت صوت جرس الباب يقرع ...

لابد أنه وليد !

تركت كل شيء بإهمال و طرت نحو باب المخرج ، في نفس اللحظة التي أقبل فيها والدي نحو الباب ...

قال :

" اذهبي و ارتدي الحجاب ، قد يكون وليد ! "

رجعت فورا إلى غرفة الملابس و سحبت حجابا لي من كومة الملابس
( المجعدة ) و لبسته كيفما اتفق ، و هرعت نحو المدخل ...

فتحت باب المدخل لأطل على الفناء الخارجي ، و أرى أبي و وليد متعانقين عند البوابة الخارجية ...

أقبلت أمي مسرعة و فتحت الباب و خرجت مهرولة إلى وليد ...

وقفت أنا عند الباب الداخلي أنظر و دموعي تفيض من عيني رغما عنها ...

لقد كان وليد واقفا بطوله و عرضه و جسده العظيم ، يحجب أشعة الغروب عن وداع ما غطاه ظله الكبير ، يضم والديه إلى صدره و ينهال برأسه البارز على رأسيهما بالقبل ...

وقفت أراقب ... و أنتظر ...

لقد طال العناق و الترحيب ... و لم يلتفت أو لم ينتبه إلي !
و فيما أنا كذلك ، و إذا بالباب يفتح ، و تنطلق منه دانة مسرعة كالقذيفة الموجهة نحو وليد !

تعانقا عناقا حميما جدا ، و دانة تقول بفرح :

" كنت واثقة من أنك ستحضر ! كنت واثقة من ذلك "

و وليد يضمها إلى صدره ثم يقبل جبينها و يقول :

" طبعا سآتي ! كم شقيقة لدي ؟؟ ... ألف مبروك عزيزتي "

كل هذه الحرارة المنبعثة من اللقاء الحميم أمام عيني جعلتني أنصهر !
و بدا أن دموعي على وشك التبخر من فرط حرارة خدي ّ
وليد !
من أي طينة خلقت أنت ؟؟ و لماذا تنبعث منك حرارة حارقة بهذا الشكل !
ألا تحس الأشجار أن الشمس قد ارتفعت بعد الغروب !؟
و أخيرا ، تحرك الثلاثة مقبلين نحوي ... نحو المدخل ...

أخيرا لامست نظراتي الجمرتين المتقدتين ، المتمركزتين أعلى ذلك الرأس ... مفصولتين بمعقوف حاد ، يزيدهما شرارا ... و حدة ... و اشتعالا !

توهج وجهي احمرارا و تلعثم قلبي في نطق دقاته المتراكضة ... و شعرت بجريان الأشياء الغريبة في داخلي ...
الدماء
سيالات الأعصاب
و الأنفاس !

و هو يخطو مقتربا ، و حجمه يزداد ... و رأسه يعلو ... و عنقي يرتفع !

سقطت أنظاري فجأة أرضا و كأن عضلات عيني قد شلت ! لم أستطع رفعهما للأعلى لحظتها ...

و جاء صوته أخيرا يدق طبلتي أذني ...

بل يكاد يمزقهما !

" كيف حالك صغيرتي ؟؟ "

و كلمة صغيرتي هذه تجعلني أحس أكثر و أكثر بصغر حجمي و ضآلتي أمام هذا العملاق الحارق !

رفعت عيني أخيرا ببعض الجهد و أنا أضم شفتي مع بعضهما البعض استعدادا للنطق !

" بخير ... "

و لكن ... حين وصلت عيناي إلى جمرتيه ، كانتا قد ابتعدتا ...

لم يكن وليد ينظر إلي ، و لا حتى ينتظر جوابي !

لقد ألقى سؤاله بشكل عابر و أشاح بوجهه عني قبل أن يسمع حتى الإجابة ... و هاهي دانة تفتح الباب ... و هاهو يدخل من بعدها ... و يدخل والداي من بعده ... و ينغلق الباب من بعدهم !

وقفت متحجرة في مكاني لا شيء بي يتحرك ... حتى عيناي بقيتا معلقتين في النقطة التي ظنتا أنهما ستقابلان عيني وليد عندها ...

مرت برهة ... و أنا أحدق في الفراغ !

هل كان وليد هنا ؟؟

هل مر وليد من هنا ؟؟

هل رأته عيناي حقا ؟؟؟

لم أجد جوابا حقيقيا ...

بدا كل شيء كالوهم و الخيال !


أفقت من شرودي و استدرت ، و فتحت الباب فدخلت ... و وصلتني أصوات أفراد أسرتي من غرفة المعيشة ...
حركت قدمي بإعياء شديد متجهة إلى حيث هم يجلسون ...
كان وليد يجلس على مقعد كبير ، و هم إلى جانبيه ... لا أظن أن أحدا انتبه لوجودي ! وقفت عند مدخل الغرفة أراقبهم و جميعهم مسرورون و أنا تعيسة !

بعد قليل ، أمي قالت فجأة :

" أتشمون رائحة شيء يحترق ؟؟ "

الشيء الذي قفز إلى رأسي هو المقعد الذي يجلسون عليه ! ربما احترق من حرارة وليد !

و بالفعل شممت الرائحة !

" إنها قادمة من هناك ! "

و أشارت والدتي نحوي ... طبعا كانت تقصد من خارج الغرفة إلا أنني ألقيت نظرة سريعة على ملابسي لأتأكد من أنها لا تقصدني !

و قفت أمي و كذلك وقف الجميع ، و أقبلت هي مسرعة قاصدة التوجه نحو المطبخ ...

لم تجد ما يحترق هناك ... ثم سمعت صوتها تنادي بقوة:

" رغد تعالي إلى هنا "

ذهبت إليها ، كانت في غرفة الملابس ... تفصل سلك المكواة عن مقبس الكهرباء !

صحت :

" أوه ! يا إلهي ! "

و أسرعت إلى الفستان الذي نسيت المكواة فوقه و خرجت مسرعة لاستقبال وليد !

" انظري ما فعلت ! سترتدينه الليلة محروقا بهذا الشكل ! "

أخذت الفستان و جعلت أدقق النظر في البقعة المحروقة ، و أعض شفتي أسفا و حسرة ...

" ماذا سأفعل الآن ؟؟ "

قلت بيأس ... فأجابت أمي بغضب :

" ترتدينه محروقا ! فنحن لم نشتره لنرميه "

عند هذا الحد ... و لم أتمالك نفسي ...

و انخرطت في بكاء شديد رغما عني ...

في نفس اللحظة التي كانت أمي تغادر فيها الغرفة كان البقية مقبلين يتساءلون عما حدث و ما احترق ...

والدي قال :

" ماذا حصل ؟؟ "

أمي أجابت باستياء :

" تركت فستانها يحترق ! و قبل قليل كسرت الأطباق ! لا أعرف متى ستكبر هذه الفتاة "

كان الأمر سيغدو مختلفا لو أن وليد لم يكن موجودا يرى و يسمع ...
كم شعرت بالحرج و الخجل ...
إنني لست طفلة و مثل هذه الأمور لم تكن لتحدث لو أنني لم أكن مضطربة و مشتتة هذا اليوم ... كما و أن أمي لم تكن لتصرخ بوجهي هكذا لو لم تكن هي الأخرى مضطربة و قلقة ، بسبب الليلة ...

رميت بالفستان جانبا و أسرعت الخطى قاصدة الهروب و الاختفاء عن الأنظار ...

كان وليد يقف عند الباب و يسد معظمه ، و حين وصلت عنده لم يتحرك ...

كنت أنظر إلى الأرض لا أجرؤ على رفع نظري إلى أي منهم ، إلا أن بقاء وليد واقفا مكانه دون أن يتزحزح جعلني أرفع بصري إليه ....

الدموع كانت تغشي عيني عن الرؤية الواضحة ...

وليد نظر إلي نظرة عميقة دون أن يتحرك ...

" إذا سمحت ... "

قلت ذلك ، فتنحى هو جانبا ، و انطلقت أسير بسرعة نحو غرفتي ...

في غرفتي ، أطلقت العنان لدموعي لتفيض بالقدر الذي تريد
كان يومي سيئا ! كم كنت سعيدة في البداية !
و الآن ...
حزينة ... محرجة ... مجروحة الخاطر ... مخذولة ...
بدموع جارية ... و قلب معصور ... و فستان محروق ! و بلا حلي !


أكثر ما أثر بي ... هو الاستقبال البليد الذي استقبلني به وليد ...
و أنا من كنت أحترق شوقا لرؤيته !

غمرت وسادتي البريئة من أي ذنب بالدموع الحارة المالحة ... و بقيت حبيسة الألم و الغرفة فترة طويلة ....

بعد مدة سمعت طرق الباب ... قمت بتململ و فتحته ، فرأيت أمي ...

تحاشيت النظر إليها ، فأنا خجلة منها و لست مستعدة لتلقي أي توبيخ هذه الساعة ...

أمي قالت :

" رغد ! على الأقل ابدئي الاستعداد ! ألم تستحمي بعد ؟؟ "

وجدت نفسي أقول بغضب و انفعال :

" لن استحم ، و لن أحضر معكم و سأنام حتى الغد "

أمي صمتت قليلا ثم قالت بنبرة عطوفة :

" يا عزيزتي لم أقصد توبيخك ، لكنك تتصرفين بشكل غريب اليوم ! هيا ابدئي الاستعداد ... "

رفعت رأسي إليها و قلت :

" بم ؟ لا فستان و لا حلي ! "

تنهدت أمي و قالت :

" ارتدي أي شيء ! ما أكثر ما لديك "

لم اقتنع ، فأنا أريد أن أظهر جديدة في كل شيء الليلة ! أليست ليلة مميزة؟ إنه عقد قران أختي دانه !

قلت :

" لن أحضر دون فستان جديد و مجوهرات ! دعوني أبقى في غرفتي فهذا أفضل و متى ما انتهيتم سأساعدكم في تنظيف المنزل "

و بكيت

بكيت بشدة ، و ليس سبب بكائي هو الفستان أو الأواني المكسورة ! إنه قلبي الذي يعتصر ألما من تجاهل وليد لي بهذه الطريقة !

لماذا فعل ذلك ؟؟

ألم أعد مهمة لديه ؟؟

ألم يعد بألا يسمح لدموعي بالانهمار ؟؟

إنه الذي يفجرها من عيني بغزارة هذه اللحظة ...

أعرف أن أمي تحبني و تدللني ، مثل أبي ... و هذا ما اعتدته منهما ... لذلك حين قالت :

" حسنا ... اذهبي بسرعة مع أبيك لشراء شيء مناسب على عجل "

لم أفاجأ ، بل مسحت دموعي مباشرة خصوصا و هي تنظر إلى الساعة بقلق ...

أخرجت حقيبتي من أحد الأدراج ... و قلت :

" لا أملك مبلغا كافيا "

ذهبت أمي و عادت بعد قليل تحمل بعض الأوراق المالية ، و قالت :

" سأخبر أبيك كي يشغل السيارة ، أسرعي رغد "

و ذهبت ، و ارتديت عباءتي و خرجت بعدها ...

و فيما أنا أجتاز الردهة ، إذا بها مقبلة نحوي تقول :

" لا فائدة يا رغد لقد خرج والدك ! "

كان والدي مشغولا طوال اليوم ، و ها قد غادر من جديد ...

أطلقت تنهيدة يأس مريرة و رميت بالحقيبة جانبا و قلت :

" قلت لك أنني لن احضر ... دعوني و شأني "

و أوشكت على البكاء

أمي قالت :

" قد يعود بعد قليل ... "

لكنني كنت قد فقدت الأمل !

جلست على المقعد و أسندت خدي إلى يدي في أسى ...

" أيمكنني فعل شيء ؟؟ "

كان هذا صوتا رجاليا جعلني أسحب يدي فجأة من تحت خذي فينحني رأسي للأسفل ثم يرتفع للأعلى ...

للأعلى ...

للأعلى !

العملاق وليد !

أمي و وليد تبادلا النظرات ، ثم قالت أمي :

" ننتظر أن يعود والدك ليصحبها إلى السوق ! "

قال :

" لدي سيارة ... إذا كان الأمر طارئا ... "

الأشياء الغريبة الثلاثة بدأت تجري في داخلي و تتسابق !

أمي قالت :

" أنت ... قدمت لتوك ! اذهب و نم قليلا في غرفة سامر ... "

" لست متعبا جدا "

" ... ثم أنك لا تعرف المنطقة ! "

قال و هو ينقل بصره بيني و بين أمي :

" لكنكما تعرفان ! "

أي نوع من الأفكار تعتقدون أنني رأيتها ؟؟

مجنونة !

قالت أمي بتردد :

" إنني مشغولة في المطبخ "

فاستدار وليد إلي و قال :

" و أنت ِ ؟أ تحفظين الطريق ؟؟ "

ربما كان سؤاله عاديا

أو ربما استهانة بي ! فهل أنا طفلة صغيرة لا أعر ف الطرق ؟؟

قلت :

" نعم ! طبعا "

ثم نظرت إلى أمي أحاول قراءة رأيها من عينيها ...

أمي بدت مترددة ... لكنها قالت بعد ذلك موجهة كلامها لي أنا:

" ما رأيك رغد ؟؟ "

أنا أقرر قبل أن أفكر في أحيان ليست بالقليلة ! قلت :

" حسنا "

و وقفت و سحبت حقيبتي ...

التفتت أمي نحو وليد و قالت :

" انتبه لها "

وليد دخل إلى غرفة المعيشة و أحضر مفتاح سيارته ، و الذي كان قد تركه على المنضدة ...

تقدمت نحو باب المنزل و وقفت في انتظاره ، حتى إذا ما أقبل فتحت الباب و خرجت قبله !

خطواتي أنا قصيرة و بسيطة ، كيف لها أن تضاهي خطواته الواسعة الشاسعة !؟

سبقني و خرج من البوابة الخارجية لفناء المنزل ... و سمعت صوت باب سيارة ينفتح ...

ما إن خرجت من البوابة ، حتى وقعت عيناي على سيارة وليد ... نفس السيارة التي كان يقودها منذ سنين ...

المرة الأخيرة التي ركبت فيها هذه السيارة كانت في أسوأ أيام حياتي ...

شعرت بقشعريرة شديدة تجتاحني و ثبت في مكاني و لم أجرؤ على المضي خطوة للأمام ...

وليد شغل السيارة و انتظرني ... و طال انتظاره !

التفت نحو الباب فوجدي واقفة هناك بلا حراك

ضغط على بوق السيارة لاستدعائي لكنني لم أتحرك

الشيء الذي تحرك هو شريط الذكريات القديمة البالية ... الموحشة البائسة ... التي طردتها من خيالي عنوة ...


وليد فتح الباب و خرج من السيارة و نظر باتجاهي و قال :

" ألن تذهبي ؟؟ "

تحركت قدماي دون إدراك مني و اقتربت من السيارة

مددت يدي فإذا بها تلقائيا تتوجه إلى الباب الأمامي ، فأجبرتها على الانحراف نحو الباب الخلفي ، فتحته و جلست على المقعد الخلفي
فيما وليد يجلس في المقدمة و إلى اليسار مني ... يكاد شعره الكثيف يلامس سقف السيارة !

عندما كنا صغارا ، أنا و دانة ... كنا نتشاجر من أجل الجلوس على المقعد الذي أجلس خلفه مباشرة الآن !

وليد انطلق بالسيارة نحو الشارع الرئيسي ثم سألني و هو يراقب الطريق :

" أين نتجه ؟ "

سار وليد ببطء نسبيا يسألني عن الطرق و المنعطفات ، و أرشده إليها حتى بلغنا المكان المطلوب .

كان سوقا صغيرا مليئا بالناس ...

أوقف وليد السيارة ، ففتحت الباب و خرجت و تقدمت للأمام

وليد لم يخرج ، و سمعت صوته عبر نافذة الباب الأمامي المفتوحة يقول :

" كم ستبقين ؟؟ "

تعجبت ، فقلت و أنا أقرب وجهي من النافذة بعض الشيء :

" ألن تأتي معي ؟؟ "

وليد صمت قليلا ، و ربما ارتبك ، ثم قال :

" و هل يجب أن آتي معك ؟؟ "

قلت :

" نعم ! "

قال :

" سأنتظرك هنا ... هذا أفضل "

بقيت واقفة في مكاني لحظة ، فعاد يقول :

" هل يجب أن أرافقك ؟؟ "

قلت :

" أو تعيدني للبيت "

و تراجعت للوراء و مددت يدي قاصدة فتح الباب الخلفي ...

وليد فتح بابه و نزل و دار حول السيارة نصف دورة حتى صار إلى جانبي

قلت :

" من هنا "

و سرنا نحو بوابة المجمع الصغير ، هو مجمع اعتدنا أنا و دانة و أمي شراء حاجياتنا منه






حينما بلغنا المتجر المقصود ، و هو متجر للملابس ، و كان يعج بالكثيرين، دخلته و توجهت نحو زاوية معينة ...

التفت إلى الخلف فوجدت وليد واقفا في الخارج ينظر من خلال زجاج المتجر ...

عدت أدراجي إليه بسرعة ... ثم قلت :

" ألن تدخل معي ؟؟ "

وليد بدا مترددا حائرا ... ربما هو غير معتاد على ارتياد الأسواق !

لذا تحرك ببطء ...

لأنني قمت بزيارة المتجر يوم أمس فأنا أعرف ما يوجد و ما يناسب ، لذا لم استغرق سوى دقائق حتى اشتريت فستانا مختلفا عن فستاني المحروق !

إنه أجمل و أغلى !

حينما هممت بالمحاسبة أخرج وليد محفظته ، و دفع الثمن !

كم أنا خجلة منه ! آمل ألا يفعل ذلك في متجر المجوهرات !

لم يكن وليد يتحدث ، بل كان يسير على مقربة مني بصمت و اضطراب ...

أنا أيضا كنت خرساء جدا !

أقبلنا نحو متجر المجوهرات ، و كان الآخر مزدحما بالناس ، و معظمهم سيدات

دخلناه و أخذت عيناي تفتشان عن الطقم الجميل الذي أغرمت به يوم أمس ... لم يكن موجودا في مكانه فخشيت أن تكون سيدة ما قد سبقتني بشرائه !

جلت ببصري في المتجر حتى وجدت ضالتي ، التفت للوراء فلم أجد وليد ...

تلفت يمنة و يسرة و لم أجده ...

أقبل صاحب المتجر يسألني :

" ماذا أعجبك سيدتي ؟ "

أسرعت مهرولة نحو الباب و نظرت من حولي فوجدت وليد واقفا يتأمل بعض التحف المعروضة في متجر مجاور ...

" وليد "

نادينه و أنا مقبلة إليه أحث الخطى ...

التفت إلي :

" هل انتهيت ؟ "

" لا "

تعجب ! و قال :

" إذن ؟؟ "

قلت :

" لا تبتعد عني "

بقى متعجبا برهة ثم أقبل معي و عدنا لذلك المتجر ...

اشتريت الطقم الباهظ الثمن و حين سمع وليد بالسعر اضطرب قليلا

فتح محفظته ليلقي بنظرة على ما بداخلها إلا أنني أسرعت بإخراج النقود من حقيبتي و دفعتها إليه

قبل أن نغادر المتجر قال وليد :

" أي شيء يصلح هدية صغيرة لدانة ؟ فأنا لا أعرف ماذا تحب ! "

أما أنا فاعرف ماذا تحب !

اعتقد أن الرجال لا يحتارون كثيرا في اختيار هدية لامرأة ! لأن المجوهرات موجودة دائما ... و تتجدد دائما ... و غالية دائمة ... و نعشقها دائما !

اخترت شيئا جميلا و بسيطا ، و معتدل السعر ، فاشتراه وليد دون تردد

خرجنا بعد ذلك من المتجر متجهين نحو البوابة ، و أثناء ذلك عبرنا على أحد محلات الأحذية الرجالية فقال وليد :


" سألقي نظرة "


و سار خطى سريعة نحو المدخل ...

كان في المتجر عدد من الرجال و الأطفال ...

و أنا أرى وليد يبتعد ... و يهم بدخول المتجر ... و المسافة بيننا تزداد خطوة بعد خطوة ... و الناس يتحركون من حولي ... ذهابا و إيابا ...
و رجال يدخلون ... و رجال يخرجون ... و وليد يكاد يختفي بينهم ، ناديت بصوت عال :

" وليد "

و رغم الازدحام و الضوضاء الصادرة من حركة الناس و كلامهم ، سمعني وليد فالتفت إلي ...


أنا أسرعت الخطى المضطربة باتجاهه ... و هو اقترب خطوتين ... و حين أصبحت أمامه قلت :

" لا تتركني وحدي "

وليد يعلوه الاستغراب ، قال مبررا :

" سألقي نظرة سريعة فحسب ... لدقيقة لا أكثر "

عدت أقول :

" لا تتركني وحدي "

عدل وليد عن فكرة إلقاء تلك النظرة ، و قال :

" هل تريدين شيئا آخر ؟؟ "

قلت :

" كلا "

قال :

" إذن ... هيا بنا "


عندما عدنا إلى المنزل ، و قبل أن يفتح لنا الباب بعد قرع الجرس ، التفت إليه و قلت :

" شكرا ... وليد "



لكن أذهلني الوجوم المرسوم على وجهه !

كأنه مستاء أو أن مرافقتي قد أزعجته

إنني لم أطلب منه ذلك بل هو من عرض المساعدة !

دخلنا إلى الداخل ، فتوجه هو تلقائيا نحو المطبخ ، فسرت خلفه ...

والدتنا كانت لا تزال منهمكة في العمل ، حين رأتنا بادرت بسؤالي :

" هل وجدت ما أردت ؟؟ "

و أخذت تنظر إلى الكيس الذي أحمله ...

" نعم "

و فتحت الكيس ، و أخرجت منه كيسا آخر صغير يحتوي على علبة المجوهرات ...

ما أن رأتها أمي حتى هزت رأسها اعتراضا و استنكارا ... فهي لم تكن تشجعني على شراء المزيد ، فقلت بسرعة مبررة :

" إنه طقم رائع جدا ! انظري ... "

و قربته منها فتأملته و قالت :

" نعم رائع و لكن ... "

لم تتم الجملة ، بل قالت :

" و لكنك اشتريته على أية حال ! "

ابتسمت ابتسامة النصر !

و التفت نحو وليد الذي كان يتابع حديثنا و قلت :

" أليس رائعا ؟ ما رأيك ؟؟ "

وليد بدا مضطربا بعض الشيء ، ثم قال :

" لا أفهم في هذه الأمور ، لكن ... نعم رائع "

و توجه نحو أحد المقاعد و جلس باسترخاء ...

أمي قالت :

" بني ... اذهب و استرخ في غرفة سامر لبعض الوقت ! إنك مجهد "


الآن وليد ينظر باتجاه والدتي ، و لا أقع أنا في مجال الرؤية لديه ... باستطاعتي أن ادقق النظر في أنفه المعقوف دون أن يلاحظ !

ما حكاية هذا الأنف يا ترى !؟

أخذت أتخيل شكل وليد قبل أن يسافر ... كم يبدو مختلفا الآن !

" رغد ألن تستعدي ؟؟ "

انتبهت على صوت والدتي تكلمني ، أجبت باضطراب و كلي خشية من أن تكون شاهدتني و أنا أتأمل ذلك الأنف !

" حاضر ، نعم سأذهب "

و انطلقت نحو غرفتي ...





~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~







بعد أن غادرت رغد ، هممت بالذهاب إلى غرفة أخي سامر و تأدية الصلاة ثم الاسترخاء لبعض الوقت ...

إنني متعب بعد مشوار الحضور الطويل

نظرت إلى فتحة الباب لأتأكد من أن رغد قد ابتعدت ، ثم قلت :

" أمي ... لم كانت رغد تبكي ؟؟ "

أمي كانت تزين قالب الكعك بطبقة من الشيكولا ، و كانت الكعكة شهية المنظر !


قالت أمي :


" لأنها أحرقت فستانها كما رأيت ! تصور ! لقد اشترته يوم الأمس بمبلغ محترم ... ! "


صمت برهة ثم قلت :

" و الآخر أيضا غال الثمن ، و حتى هذا الطقم "

ابتسمت والدتي و قالت :

" إنها تبذر النقود ، هذا أحد عيوبها ! "

أوه هكذا ؟ جيد ... !
لقد عرفت شيئا جديدا عن طفلتي ... أصبحت مبذرة للمال أيضا ؟؟ و ماذا بعد ...؟؟


قلت بتردد :

" هل ... هل ... تحسنون معاملتها ؟؟ "

رفعت أمي بصرها عن الكعكة و نظرت نحوي باستغراب ... ثم قالت :

" طبعا ! بالتأكيد ! بل إننا ... ندللها كثيرا ! "

تنهدت بارتياح نسبي ، و عدت أقول :

" إذن ... لماذا كانت تبكي ؟؟ "

أمي تعجبت أكثر ، و قالت :

" قلت لك ... بسبب الفستان ! "

قلت :

" لا أمي ... أعني قبل ذلك "

" قبل ذلك ؟؟ "

" عندما خرجت لاستقبالي فور وصولي ... "





في غرفة أخي سامر ، و الذي سيصل بعد قليل قادما من المدينة الأخرى حيث يعمل ، اضطجعت على السرير و سبحت في محيط لا نهائي من الأفكار ...

الشيء الذي أثار قلقي هو الطريقة التي وبخت فيها والدتي رغد بعد وصولي بقليل ...

فهل حقا يحسن الجميع معاملتها و يدللها ؟؟

لم أتحمل رؤيتها تبكي ...

عندما كنا في منزلنا القديم ، لم أكن لأسمح لأحد بأن يحزنها بأي شكل من الأشكال ، مهما فعلت

كانت دانه دائما تتشاجر معها أو تضربها ، و كنت دائما أقف في صف صغيرتي ضد أي كان ...
ترى ... هل تذكر هي ذلك ؟؟ أم أنني أصبحت من الماضي المنسي ... و الأحلام الوهمية ... و الذكريات المهجورة ؟؟


حاولت النوم و لم استطع ، لذا عدت إلى غرفة المعيشة فوجدت والديّ و رغد هناك ...

تبادلنا بعض الأحاديث عن عريس دانة ، و هو لاعب كرة ذاع صيته و اشتهر في الآونة الأخيرة ...


قلت :


" و لكن ألا تفكر في متابعة دراستها ؟ إنها لا تزال صغيرة على الزواج ! "

قال أبي :

" لا تريد الدراسة ، و هو عريس جيد ! كما و أنها في سن مناسب ! فليوفقهما الله ! "

لحظات و إذا بسامر يحضر ، و يحظى بترحيب لا يقل حرارة عن ترحيبهم بي ...

بدأ سامر بأكبرنا ، ثم حين جاء دوري ، صافحني بحرارة و شوق كبيرين جدا ... و أطال عناقي الأخوي ...

أشعرني هذا بقربه مني ، بعدما فرقت السنين بيننا ... و بأنني لازلت أملك عائلة تحبني و ترغب في وجودي في أحضانها ...

شيء رفع من معنوياتي المتدهورة

لكن ...

سرعان ما انحطت هذه المعنويات و اندفنت في لب الأرض تحت آلاف الطبقات من الحجر و الحديد و الفولاذ ، حين أقبل إلى رغد يصافحها و يضمها إلى صدره و يقبل جبينها بكل بساطة ...

لو كنت بركانا ... أو قنبلة ... أو قذيفة نارية ، لكنت انفجرت لحظتها و دمرت كوكب الأرض بأسره و نسفته نسفا و حولته إلى مسحوق غبار

لكنني كنت وليد

أو بالأصح ...

شبح وليد ...

ما الذي دعاني لتمالك نفسي ؟؟ لا أعرف ...

لقد كان باستطاعتي أن أحطم رأس أي مخلوق يقف أمامي شر تحطيم

و لو ضربت الجدار بقبضتي هذه لسببت زلزالا مدمرا و لهوى السقف و قضى علينا جميعا ...

لكنني اكتفيت بان أحفر أسناني من شدة الضغط ، و أمزق أوتار يدي من قوة القبض ...



ليت أمي لم تلدك يا سامر

ليتك تتحول إلى أي رجل آخر في العالم ، لكنت استأصلت روحك من جسدك و مزقتك خلية خلية ...


" أين العروس ؟؟ "

سأل أخى و هو لا يزال ممسكا بيد رغد ...


" في غرفتها ! تتزين ! "

قالت رغد ، فقال :

" سأذهب لرؤيتها "

و شد رغد يحثها على السير معه ... و ذهب الاثنان و غابا عن ناظري ...

ليتني لم أعد

أي جنون هذا الذي جعلني أعود فاحترق ؟؟ إنني أكاد انفجر

هل يحس أحد بي ؟؟

سمعت أمي تقول :

" ما بك وليد ؟ أ أنت متعب بني ؟؟ "

متعب ؟؟

فقط متعب ؟؟

ابتعدوا عني و إلا فأنني سأحرقكم جميعا !

رميت بجسدي المشتعل على المقعد و أخذت أتنفس بعمق أنفاس متلاحقة عل الهواء يبرد شيئا مما في داخلي

مرت لحظة صامته إلا عن تيار الهواء المتلاعب في صدري

أمي و أبي لا يزالان واقفين كما هما ... و أنا أشعر بحر شديد و أكاد أختنق ....

رفعت رأسي فإذا بهما يراقبانني ... أظن أن وجهي كان شديد الاحمرار و يتصبب عرقا ...

القلق كان باد على وجهيهما

قلت :

" الجو حار ... "

أمي سارت نحو المكيف و زادت من قوة دفعه للهواء ...

التفت إلى أبي و قلت :

" و هذان ؟؟ متى ارتبطا ؟؟ "

لم يجب أبي مباشرة ، ثم قال :

" عقدنا قرانهما قبل ما يزيد عن السنوات الثلاث "

مزيد من الاختناق و الضيق ... كأن الهواء قد سحب من الغرفة تماما ...

قلت :

" ألا ترى يا والدي أنهما لا يزالان صغيرين ؟ على الأقل رغد ... صغيرة جدا "

أبي قال :

" إننا لن نزوجهما قريبا على أية حال ، فرغد تود الالتحاق بالجامعة أولا و لا أدري إن كان سامر سيفلح في إقناعها بغير ذلك "

أثارت الجملة اهتمامي ، قلت :

" غير ذلك ؟؟ "

قالت أمي :

" قد نزوج الثلاثة في ليلة واحدة قريبا ! "

و ابتسمت ، ثم قالت :

" و يأتي دورك ! "

وقفت مستاء ، و يممت وجهي شطر المطبخ فأنا أحس بعطش شديد و بحاجة لنهر كامل ليرويني و يخمد نيراني ... و تركت والدي ّ في حيرة من أمرهما ...



...................






التوقيع

.
.
.




ليس الوجع في أيام الفقد الأولى ، بل حين تأتي الأيام السعيدة
فتجد أنّ من يستطيع مشاركتك فرحتك بشكل أكبر و أعمق قد رحل ..!!










.
.

رد مع اقتباس
قديم 27-05-2009, 05:47 AM   #17
بيادر الحب
المراقب العــام
الصورة الرمزية بيادر الحب

المعلومات





آحدث المواضيع


الاتصال

بيادر الحب غير متصل

بيادر الحب تم تعطيل التقييم
افتراضي رد: [ أنت لي ] رواية جميلة للكاتبة / تمرحنا


تتمة الجزء السابق





تم عقد القران و انتهت الليلة بسلام أخيرا !

لقد بذلت جهودا مضاعفة في تنظيف المنزل بعد مغادرة الضيوف !

أما دانه فكان القلم مرفوعا عنها هذا اليوم !

طلبت من أمي أن تذهب للراحة و توليت أنا ، مع سامر تنظيف الأطباق ...

أما الرجل الناري فلا علم لي بأي أرض يحترق هذه الساعة !

كنت واقفة أمام صنبور الماء البارد أغسل الأطباق ، و سامر إلى جانبي ...

سألته :

" كيف بدا العريس ؟؟ "

أجاب :

" مهذبا و خلوقا و بشوشا ! "

قلت :

" لا يعجبني ! "

ابتسم سامر و قال :

" و لكن لم ؟؟ "

أجبت :

" لا أعرف ! لكنني أجده ثقيل الظل ! إنه مغرور و يتحدث عن نفسه بزهو و خيلاء أمام الكاميرات ! كيف تتحمل دانه زوجا كهذا ؟؟ "


سامر ضحك ، فضحكت معه ...

قال :

" ليس المهم رأيك أنت به ! المهم رأي العروس به ! "

ثم غير نبرة صوته حتى غدت أكثر لطفا و رقة ، و قال :

" و رأيك بي أنا ... "

ارتبكت .. و اضطربت تعبيرات وجهي ، و أخفيت نظراتي في حوض الغسيل !

وصلنا هذه اللحظة صوت حركة عند الباب ، فالتفتنا للخلف فإذا به وليد ...

و صدقوني ، شعرت بماء الصنبور يحرقني !

تبادلنا النظرات ...

قال وليد :

" هل لي بلحاف ؟ سأنام في غرفة الضيوف "

نظف سامر يده و استدار نحو وليد قائلا :

" أوه كلا يا أخي ، بل ستنام في غرفتي و على سريري ، سأنام أنا على الأرض أو في غرفة الضيوف أو أي مكان ! "

لم يظهر على وليد أنه يرحب بالفكرة أو حتى سماعها !

قال :

" أريد لحافا لو سمحت "

كان وجهه جامدا صارما ، و رغم أن سامر كان يبتسم ، ألا أن وليد كان عابسا ...

قال سامر :

" أرجوك استخدم غرفتي ! أنا سأسافر بعد الغد على أية حال "

قال وليد :

" و أنا كذلك . هل لا أحضرت لحافا الآن ؟؟ "

وليد شخص غريب ... نعم غريب !

نحن لا نعرفه ! و لا نعرف كيف هي طباعه و لا كيف كانت حياته في الخارج ... ربما كان صارما جدا ... قلما رأيته يبتسم مذ عودته !

انتهى الأمر بأن نام وليد في غرفة الضيوف ، على المقعد الكبير ، الذي نمت عليه ذلك اليوم ! أتذكرون ؟؟

توقعت أن أجد صعوبة في النوم ... طالما تفكيري مستعمر من قبل وليد ... ألا أنني نمت بسرعة مدهشة !

في اليوم التالي ، اجتمعت العائلة في غرفة الطعام لتناول الفطور الصباحي ، في ساعة متأخرة من الصباح !

أعددنا الأطباق في غرفة المائدة ، و جاء الجميع ليتخذوا مقاعدهم ...

كالعادة جلس والداي على طرفي المائدة ، و دانة إلى يمين أبي ، و سامر إلى يساره ، و هممت بالجلوس على مقعدي المعتاد يمين أمي ، لكنني انتظرت وليد ...

وليد حرك ذات المقعد و قال :

" مقعدك ... "

و تركه و ذهب للجهة المقابلة و جلس إلى يسار أمي ...

جلست أنا على مقعدي المعتاد ، و صار وليد مواجها لي ... وضع يسمح للأشعة المنبعثة من ناحيتة لاختراقي مباشرة !

فجأة ، وقف وليد ... و خاطب دانة قائلا :

" هل لا تبادلنا ؟؟ "

و تبادلا المعقدين ...

ربما رأى الجميع هذا التصرف عاديا ... و فسروه بأن وليد يرغب بالجلوس قرب والده .... أو أي تفسير آخر ... ألا أنني فسرته بأن وليد لا يرغب في الجلوس مقابلا لي ...

صار هذا الوضع هو الوضع الذي نجلس عليه خلال الأيام التي قضاها وليد معنا ...

وليد كان يلتزم الصمت ، و أنا أريد أن أسمع منه أخباره ، و لا أجرؤ على طرح الأسئلة عليه ...

بين لحظة و أخرى ، ألقي نظره باتجاهه ، لكن أعيننا لم تلتق مطلقا ...

بعد الفطور ، ذهب الجميع إلى غرفة المعيشة ، والدي يطالع الصحف و سامر يقلب قنوات التلفاز ، و دانه شاردة الذهن ... فيما وليد و أمي يتبادلان الحديث ، يشاركهما البقية بتعليق أو آخر من حين لآخر

تركت الجميع كما هم ، و ذهبت إلى غرفة الضيوف لرفع اللحاف و ترتيب ما قد يكون مضطربا ...

دخلت الغرفة ، فوجدت اللحاف مطويا و موضوعا على المقعد الكبير ، و على المنضدة المجاورة وجدت سلسة مفاتيح وليد ، و محفظته ...

مشيت بخفة حتى صرت أمام المنضدة و جعلت أحدق في المحفظة بفضول !

و انتقل فضولي من عيني إلى يدي ، فمددتها و نظرت من حولي لأتأكد من أن أحدا لا يراقبني !

انفتحت المحفظة المثنية ، فظهرت بطاقة وليد الشخصية و فيها صورة حديثة له !
بأنفه المعقوف !
و الآن ... ما هي الفكرة المجنونة التي قفزت إلى رأسي ؟
سأرسمه !
لم أدع أي فرصة لعقلي ليفكر ، و أخذت المحفظة و طرت مسرعة إلى غرفتي

و بدأت أرسم رسمة سريعة خفيفة لمعالم وجهه و أنظر للساعة في وجس و خوف ...

ما أن انتهيت ، حتى أسرعت الخطى عائدة بالمحفظة إلى غرفة الضيوف ... و توقفت فجأة و اصفر وجهي و ارتجفت أطرافي ... حين رأيت وليد في الغرفة مقبلا نحو الباب ، يحمل في يده سلسلة المفاتيح ...

أول شيء وقعت عينا وليد عليه هو محفظته التي تتربع بين أصابع يدي !

رفع وليد بصره عن المحفظة و نظر إلي ، فأسرعت بدفن أنظاري تحت قدمي قال باستنكار :

" أظن أنها ... تشبه محفظتي المفقودة تماما ! "

ازدردت ريقي و تلعثمت الكلمات على لساني من شدة الحرج و الخجل ...

قال وليد :

" خائنة ... مبذرة ... و ماذا بعد ؟ هل تسرقين أيضا ؟؟ "


رفعت نظري إليه و فغرت فاهي بذهول ... من هول ما سمعت !






التوقيع

.
.
.




ليس الوجع في أيام الفقد الأولى ، بل حين تأتي الأيام السعيدة
فتجد أنّ من يستطيع مشاركتك فرحتك بشكل أكبر و أعمق قد رحل ..!!










.
.

رد مع اقتباس
قديم 27-05-2009, 06:02 AM   #18
بيادر الحب
المراقب العــام
الصورة الرمزية بيادر الحب

المعلومات





آحدث المواضيع


الاتصال

بيادر الحب غير متصل

بيادر الحب تم تعطيل التقييم
افتراضي رد: [ أنت لي ] رواية جميلة للكاتبة / تمرحنا

الجزء السادس عشر




لقد قضيت خمسة أيام في بيت عائلتي ، كان يمكن أن تكون من أجمل أيام حياتي ... لكنها كانت من أسوأها

كنت أود الرحيل عنهم في أقرب فرصة ، لكنني اضطررت كارها للبقاء بإلحاح من أبي و أمي

سامر غادر يوم الجمعة ، و قد ودعته وداعا باردا ... و غادرت أنا صباح الثلاثاء التالي باكرا .

خلال تلك الأيام الخمسة ...
كنت أتحاشى الالتقاء برغد قدر الإمكان و لا أنظر أو أتحدث إليها إلا للضرورة
و هي الأخرى ، كانت تلازم غرفتها معظم الوقت و تتحاشى الحديث معي ، خصوصا بعد أن قلت لها :

" هل تسرقين ؟ "

اعترف بأنني كنت فظا جدا ألا أنني لم أجد طريقة أفضل لأعبر بها عن غضبي الشديد و مرارتي لفقدها

في آخر الأيام ، طلبت مني والدتي اصطحاب رغد إلى المكتبة لتشتري بعض حاجياتها .

لم أكن لأفعل ذلك ، غير أنني شعرت بالحرج ... إذ أن والدي كان قد عاد قبل قليل من العمل و يسترخي ... فيما أنا أنعم بالراحة و الكسل ، دون مقابل ...
و ربما كان ذلك ، نوعا من الإعتذار ...
في ذلك اليوم كان نوار في زيارة مطولة لشقيقتي ، و مدعو للعشاء معها !


ذهبنا أنا و رغد إلى تلك المكتبة العظمى المترامية الأطراف ...
رغد توجهت إلى الزاوية الخاصة ببيع أدوات الرسم و التلوين و خلافها ... و بدأت تتفرج و تختار ما تريد ...

و على فكرة ، علمت أنها رسامة ماهرة ...
لكم كانت تعشق التلوين منذ الصغر !

أخذت أتفرج معها على حاجيات الرسم و التلوين ... ثم انعطفت في طريقي ، مواصلا التفرج ... و لم يعد باستطاعتي رؤية رغد أو باستطاعتها رؤيتي

شغلت بمشاهدة بعض الرسوم المعلقة أعلى الحائط و ما هي إلا ثوان حتى رأيت رغد تقف بجواري !

قلت :

" رسوم جميلة ! "

" نعم . سأشتري الألوان من هناك "

و أشارت إلى الناحية الأخرى التي قدمنا منها ... فعدت معها ...
انهمكت هي باختيار الألوان و غيرها ، فسرت أتجول و أتفرج على ما حولي حتى بلغت زاوية أخرى فانعطفت ...

مضت ثوان معدودة ، و إذا بي أسمع صوت رغد يناديني مجددا ...
استدرت للخلف فرأيتها تقف قربي !
و بيني و بينها مسافة بضع خطوات
تخيلت أنها تريد قول شيء ، فسألتها :

" هل انتهيت ؟؟ "

قالت :

" لا "

تعجبت !

قلت :

" إذن ؟؟ "

قالت :

" لا تبتعد عني "

يا لهذه الفتاة !

قلت :

" حسنا ! "

و مضيت ُ معها إلى حيث كانت أغراضها موضوعة على أحد الأرفف
رأيتها تأخذ أغراضا أخرى كثيرة ، فتلفت من حولي بحثا عن سلة تسوق ، و لم أجد . ذهبت لأبحث عن سلة فإذا بي أسمعها تناديني :

" وليد "

قلت :

" سأحضر سلة لحمل الأغراض "

فإذا بها تترك ما بيدها و تأتي معي !

عدنا مجددا للأغراض ، و تابعت هي اختيار ما تشاء، و تجولت أنا حتى بلغت ناحية الكتب ...
الكثير من الكتب أمام عيني !
يا له من بحر كبير ! كم أنا مشتاق للغطس في أعماقه !
لم أكن قد قرأت ُ كتابا منذ مدة طويلة ... أخذت أتفرج عليها و أتصفح بعضها ... و انتقل من رف إلى آخر ، و من مجموعة إلى أخرى ... حتى غرقت في البحر حقا !

كانت أرفف الكتب مصفوفة على شكل عدة حواجز تقسم المنطقة ...
و الكثير من الناس ينتشرون في المكان و يتفرجون هنا أو هناك ...

دقائق ، و إذا بي أسمع صوت رغد من مكان ما !
كان صوتها يبدو مرتبكا أو قلقا ... لم أكن في موقع يسمح لي برؤيتها ... فسرت بين الحواجز بحثا عنها و أنا أقول :

" أنا هنا "

و لم أسمع لها صوتا !
أخذت ُ ألقي نظرة بين الحواجز بحثا عنها
ثم وجدتها بين حاجزين ...

" أنا هنا ! "

حينما رأتني رغد أقبلت نحوي مسرعة تاركة السلة التي كانت تحملها تقع على الأرض و حين صارت أمامي مباشرة فوجئت بها تمسك بذراعي و ترتجف !

كانت فزعة !!

وقفت أمامي ترتعش كعصفور مذعور !

نظرت إليها بذهول ... قلت :

" ما بك ؟؟ "

قالت و هي بالكاد تلتقط بعض أنفاسها :

" أين ذهبت ؟ "

أجبت :

" أنا هنا أتفرج على الكتب ! ... ما بك ؟؟ "

رغد ضغطت على ذراعي بقوة ... و قالت بفزع :

" لا تتركني وحدي "

نظرت ُ إليها بشيء من الخوف ، و القلق ... و الحيرة ...

فقالت :

" لا تدعني وحدي ... أنا أخاف "

لكم أن تتصوروا الذهول الذي علاني لدى سماعي لها تقول ذلك ... و رؤيتها ترتجف أمام عيني بذعر ...

لقد ذكرني هذا الموقف ، باليوم المشؤوم ...

قلت :

" أ أنت ِ ... بخير ؟؟ "

فعادت تقول :

" لا تتركني وحدي ... أرجوك ... "

لم يبدُ لي هذا تصرفا طبيعيا ... توترتُ خوفا و قلقا ... و تأملتها بحيرة ...

سرنا باتجاه السلة ، فأردت سحب ذراعي من بين يديها لحمل السلة و إعادة المحتويات إلى داخلها ... لكنها لم تطلقها بسهولة ...
و عوضا عن ذلك تشبثت بي أكثر ثم بدأت بالبكاء ...

لم يكن موقفا عاديا ، لذا فإن أول شيء سألت أمي عنه بعد عودتنا للبيت :

" ما الذي جعل رغد تفزع عندما تركتها في المكتبة و ابتعدت قليلا ؟؟ "

أمي نظرت إلي باهتمام ... ثم قالت :

" ماذا حدث ؟؟ "

" لا شيء ... ذهبت ألقي نظرة على الكتب و بعد دقائق وجدتها ترتجف ذعرا ! "

عبس وجه والدتي ، و قالت :

" و لماذا تتركها يا وليد ؟ قلت لك ... انتبه لها "

أثار كلام أمي جنوني ، فقلت :

" أمي ... ماذا هناك ؟؟ ما لأمر ؟؟ "

قالت أمي بمرارة :

" لديها رهبة مرضية من الغرباء ... تموت ذعرا إذا لم تجد أحدنا إلى جانبها ... إنها مريضة بذلك منذ سنين ... منذ رحيلك يا وليد ! "

لقد صدمت بالنبأ صدمة هزت كياني و وجداني ...

أخبرتني أمي بتفاصيل حدثت للصغيرة بعد غيابي ... و الحالة المرضية التي لازمتها فترة طويلة و الذعر الذي ينتابها كلما وجدت نفسها بين غرباء ...
لم يكن صعبا علي أن أربط بين الحادث المشؤوم و حالتها هذه
و كم تمنيت ...
كم تمنيت ...
لو أن عمّار يعود للحياة ... فأقتله ... ثم أقتله و أقتله ألف مرة ...
إنه يستحق أكثر من مجرد أن يقتل ....

قالت أمي :

" و عندما توالت الهجمات على المنطقة ، اشتد عليها الذعر و المرض ... و وجدنا أنفسنا مضطرين للرحيل مع من رحل عن المدينة ... لم يكن الرحيل سهلا ، لكن العودة كانت أصعب ... قضيت معها فترات متفرقة في المستشفى ... لم تكن تفارقني لحظة واحدة ! بمشقة قصوى ذهب والدك و شقيقك لزيارتك في العاصمة ، تاركين الطفلة المريضة و أختها في رعايتي في المستشفى ، إلا أنهما منعا من الزيارة و أبلغا أن الزيارة محظورة تماما على جميع المساجين ! "

و أمي تتحدث و أنا رأسي يدور ... و يدور و يدور ... حتى لف المجرة بأكملها
تساؤلات كان تملأ رأسي منذ سنين ، و جدت إجابة صاعقة عليها دفعة واحدة ...
أسندت رأسي إلى يدي ...

رأتني أمي أفعل ذلك فقالت :

" بني ... أ أنت بخير ؟؟ "

رفعت يدي عن رأسي و قلت :

" و لماذا ... لماذا زوجتموها لسامر و هي بذلك السن المبكر جدا ؟؟ "

قالت :

" لمن كنت تظننا سنسلم ابنتنا ؟؟ إنها تموت ذعرا لو ابتعدت عنا ... هل تتصور أنها تستطيع الخروج من هذا المنزل ؟؟ لا تخرج في مكان عام إلا بوجود أبيك أو سامر ... كانت ستتزوجه إن عاجلا أم آجلا ... فرفعنا الحرج عنهما لبقائهما في بيت واحد "

قلت :

" لكن يا أمي ... إنها ... إنها .... "

و لم تخرج الكلمة المعنية ...

أتممت :

" إنها صغيرة جدا ... ما كان يجب أن تقرروا شيئا كهذا ... "

و تابعت :

" كان يجب ... كان يجب ... إن ... "

و لم أتم ...

ماذا عساي أن أقول ... ؟؟ لقد فات الأوان و انتهى كل شيء ...

لكن الأمور بدت أكثر وضوحا أمامي ...

هممت بالذهاب إلى غرفة سامر التي أستغلها ، من أجل تنفس الصعداء وحيدا ...

توقفت قبل مغادرتي لغرفة المعيشة حيث كنا أنا و أمي ...

التفت إليها و قلت :

" أ لهذا لم تخبروها بأنني دخلت السجن ؟؟؟ هل أخبرتموها أنني ... لن أعود ؟؟ "

والدتي قالت :

"أخبرناها بأنك قد تعود ... و لكن ... بعد عشرين عاما ... و قد لا تعود ... "

كانت أمي تبكي ...
بينما قلبي أنا ينزف ...

قلت :

" و لكنني عدت ... "

والدتي مسحت دموعها وابتسمت ، ثم تلاشت الابتسامة عن وجهها ... و نظرت إلي باهتمام و قلق ...

قلت :

" و يجب أن أرحل "

و تابعت طريقي إلى غرفة سامر ...

فضول لم استطع مقاومته ، و قلق شديد بشأنها دفعني للاقتراب من غرفة رغد المغلقة ... و من ثم الطرق الخفيف ...

" أنا وليد "

بعد قليل ... فتح الباب ...
كنت أقف عن بعد ... أطلت رغد من الداخل و نظرت إلي
رأيت جفونها الأربعة متورمة و محمرة أثر الدموع

قلت :

" صغيرتي ... أنا آسف ... "

ما إن قلت ذلك ... حتى رفعت رغد يديها و غطت وجهها و أجهشت بكاءا
زلزلني هذا المشهد ... كنت أسمع صوت بكائها يذبذب خلايا قلبي قبل طبلتي أذني ّ

قلت بعطف :

" رغد ... "

رغد استدارت للخلف و أسرعت نحو سريرها تبكي بألم ...

بقيت واقفا عند الباب لا أقوى على شيء ... لا على التقدم خطوة ، و لا على الانسحاب ...

" رغد يا صغيرتي ... "

لم تتحرك رغد بل بقيت مخفية وجهها في وسادتها تبكي بمرارة ... و يبكي قلبي معها ...

" رغد ... أرجوك كفى ... "

ثم قلت :

" توقفي أرجوك ... لا احتمل رؤية دموعك ! "

و لم تتحرك رغد ...

تقدمت خطوة واحدة مترددة نحو الداخل ... و نظرت إلى ما حولي بقلق و تردد ...

المرآة كانت على يميني ، و حين تقدمت خطوة رأيت صورتي عليها ... و حين التفت يسارا ... رأيت صورتي أيضا !

فوجئت و تعلقت عيناي عند تلك الصورة !

لقد كانت رسمة لي أنا على لوحة ورقية ، لم تكتمل ألوانها بعد !

نقلت بصري بين رغد الجالسة على السرير تغمر وجهها في الوسادة ، و صورتي على الورقة !
كيف استطاعت رسمي بهذه الدقة !؟ و بمظهري الحالي ... فأنفي محفور كما هو الآن !
كيف حصلت على صورة لي لترسمها ، أم أنها رسمتها من خلال المرات القليلة العابرة التي نظرت فيها إلي ... !؟

" يشبهني كثيرا ! أنت بارعة ! "

ما إن أنهيت جملتي حتى قفزت رغد بسرعة ، و عمدت إلى اللوحة فغطتها بورقة بيضاء بسرعة و ارتباك !

ثم بعثرت أنظارها في أشياء كثيرة ... بعيدا عني ... و أخذت تفتح علب الألوان الجديدة التي اشترتها من المكتبة باضطراب ...

رجعت للوراء ... لم أكن أملك فكرة لما علي فعله الآن ! ماذا علي أن أفعل ؟؟
أظن ... أن علي الخروج حالا

الجملة التي ولدت على لساني هذه اللحظة كانت :

" أحب أن أتفرج على رسوماتك ! "

و لكن أهذا وقته !
رجعت خطوة أخرى للوراء و أضفت :

" لاحقا طبعا ... إذا سمحت ِ "

رغد توجهت نحو مكتبتها و أخرجت كراسة رسم كبيرة ، و أقبلت نحوي و مدتها إلي ...
في هذه اللحظة التقت نظراتنا
كان بريق الدموع لا يزال يتلألأ في عينيها الحمراوين ، ينذر بشلال جارف ...
أخذت الكراسة ....
و قلت و قلبي يتمزق :

" لا تبكي أرجوك ... "

لكن الدمعة فاضت ... و انسكبت ... و انجرفت ... تقود خلفها جيشا من الدموع المتمردة ...

" رغد ... سألتك ِ بالله كفى ... أرجوك ... "

" لا أستطيع أن أتغلب على ذلك ... كلهم مرعبون ... مخيفون ... أشرار ... يريدون اختطافي "

و انفجرت رغد في بكاء مخيف ... هستيري ... قوي ... و ارتجفت أطرافي ذعرا و غضبا و قهرا كدت أصرخ بسببه صرخة تدوي السماء ...
أراها أمامي كما رأيتها ذلك اليوم المشؤوم ... و أضغط على الكراسة في يدي و أكاد أمزقها ...
تمنيت لو أستطيع تطويقها بين ذراعي بقوة ... كما فعلت يومها ... لكنني عجزت عن ذلك
تمنيت لو ...
لو أخرج جثة عمار من تحت سابع أرض ... و أقتله ، ثم أمزقه قطعة قطعة ... خلية خلية ... ذرة ذرة ...
لو يعود الزمن للوراء ... لكنت قتلته في عراكي معه آخر مرة ... و لم أدع له الفرصة ليعيش و يؤذيك ...

إنني كنت ُ السبب ...
نعم أنا السبب ...
و قد انتقم مني أبشع انتقام ...
و أي انتقام ؟؟
ثمن بقيت أدفعه منذ ذلك اليوم ، و حتى آخر لحظة في حياتي البائسة ...
ما ذنب صغيرتي في كل هذا ...؟
خسئت أيها الوغد ...

هنا أقبلت أمي التي يبدو أنها سمعت بكاء رغد ... و وقفت إلى جانبي لحظة تنقل نظرها بيني و بين رغد ، ثم تقدمت إلى رغد

" عزيزتي ؟؟ "

رغد ارتمت بقوة في حضن والدتي ... و هي تبكي بألم صارخ ... و تقول بين دموعها :

" لا تتركوني وحدي ... لا تتركوني وحدي ... "

أمي طوقت رغد بحنان و أخذت تربت عليها بعطف و تهدئها ...

ثم نظرت إلى باستياء و قالت :

" لماذا يا وليد ؟؟ "



في غرفة سامر ، أجلس على السرير ، أقلب صفحات كراسة رغد ...
الكثير من الرسومات الجميلة ...لأشياء كثيرة ... ليس من بينهم صورة لأحد أفراد العائلة غير دانة !
صورة لها و هي صغيرة و غاضبة !
و العديد من صور أشياء خيالية ... و أشباح !
لا أعرف ما الذي تقصده بها ...
كانت ساعتان قد انقضتا مذ خرجت من غرفتها تاركا إياها تهدأ في حضن والدتي
الآن أسمع طرقا على الباب

" تفضل "

و دخلت والدتي

" وليد ... العشاء جاهز "

تركت الكراسة على السرير و خرجت مع أمي قاصدين غرفة الطعام . قبل أن نصل، همست أمي لي :

" وليد ... لا تثر ذلك الأمر ثانية رجاءا "

فأومأت برأسي موافقا .
و لم أسمح لنظراتي أن تلتقي بعيني رغد أو للساني أن يكلمها طوال الوقت .

بعد ذلك ، ذهبت مع أبى نتابع آخر الأخبار عبر التلفاز ، في غرفة المعيشة

لا يزال الدمار ينتشر ... و الحرب التي هدأت نسبيا لفترة مؤقتة عادت أقوى و أعنف ... و أخذت تزحف من قلب البلدة إلى الجهات الأربع ...
تم غزو مدينتين أخريين مؤخرا ، لم تكن الحرب قد نالت منهما حتى الآن ... و تندرج المدينة الصناعية التي نحن فيها الآن ، في قائمة المدن المهددة بالقصف ...

كنت مندمجا في مشاهدة لقطات مصورة عن مظاهرات متفرقة حدثت صباح اليوم في مدن مختلفة من بلدنا .... و رؤية العساكر يضربون المدنيين و يقبضون على بعضهم ...

منظر مريع جعل قلبي ينتفض خوفا ... و أثار ذكريات السجن المؤلمة المرعبة ...

في هذا الوقت ، أقبلت رغد تحمل مجموعة من الكراسات و اللوحات الورقية ، و جاءت بها إلي !

" تفرج على هذه أيضا ... هذا كل ما لدي "

وضعتُ الكراسات على المنضدة المركزية ، و جلست رغد على مقعد مجاور لمقعدي ... تراقبني و تنتظر تعليقاتي حول رسوماتها الجميلة ...

إن عيني كانت على الرسومات ، إلا أن أذني كانت مع التلفاز !

بعدما فرغت من استعراض جميع الرسومات قلت :

" رائعة جدا ! أنت فنانة صغيرتي ! أهذا كل شيء ؟؟ "

رغد ابتسمت بخجل و قالت :

" نعم ... عدا اللوحة الأخيرة "

و أخفت أنظارها تحت أظافر يديها !
لماذا قررت رغد رسمي أنا ؟ و أنا بالذات !؟؟
إنها لم ترسم أحدا من أفراد عائلتي ... فهاهي الرسومات أمامي و لا وجود لسامر مثلا فيما بينها !

قلت :

" متى تنهينها ؟ "

لا زالت تتأمل أظافرها و كأنها تراهم للمرة الأولى !

قالت :

" غدا أو بعد الغد ... "

قلت :

" خسارة ! لن أراها كاملة إذا ! "

رفعت رغد عينيها نحوي فجأة بقلق ، ثم قالت :

" لماذا ؟ "

أجبت :

" لأنني ... سأرحل غدا باكرا ... كما تعلمين ! "

اختفى صوت الأخبار فجأة ، التفت إلى التلفاز فإذا به موقف ، ثم إلى أبي ، و الذي كان يحمل جهاز التحكم في يده ، فرأيته ينظر إلي بعمق ... و إلى أمي فوجدتها متسمرة في مكانها ، تحمل صينية فناجين و إبريق الشاي ...

و كنت شبه متأكد ، من أنني لو نظرت إلى الساعة لوجدتها هي الأخرى متوقفة عن الدوران !

حملق الجميع بي ... فشعرت بالأسى لأجلهم ... كانت نظرات الاعتراض الشديد تقدح من أعينهم

أول من تحدث كان أمي :

" ماذا وليد ؟؟ و من قال أنك سترحل من جديد ؟؟ "

صمت قليلا ثم قلت :

" قلت ذلك منذ أتيت ... انتهت الزيارة و لابد لي من العودة "

قال والدي مقاطعا :

" ستبقى معنا يا بني "

هززت رأسي ، و قلت :

" و العمل ؟؟ ماذا أفعل ببقائي هنا ؟؟ "

و دار نقاش طويل حول هذا الموضوع ، و بدأت أمي بالبكاء ، و رغد كذلك !

و حين وصلت دانة ـ و التي كانت لا تزال تتناول العشاء مع خطيبها في غرفة الضيوف ، و جاءت تسأل أمي عن الشاي ، و رأت الوجوم على أوجهنا ثم عرفت السبب ـ بكت هي الأخرى !

أردت أن أختصر على نفسي و عليهم آلام الوداع .. سرعان ما قلت :

" سأخلد للنوم "

و ذهبت إلى غرفة سامر
أخذت أقلب كراسة رغد مجددا ...
كم أثارت ذكريات الماضي ... كم كانت شغوفة بالتلوين ! لقد كنت ألون معها ببساطة ! كم أتمنى لو ... تعود تلك الأيام ...

جمعت أشيائي في حقيبة سفري الصغيرة التي جئت بها من مدينتي
ضبطت المنبه ليوقظني قبل أذان الفجر بساعة ...

كنت أريد أن أخرج دون أن يحس أحد بذلك ، لئلا تبدأ سلسلة عذاب الفراق و ألم الوداع ... كالمرة السابقة ...
و حين نهضت في ذلك الوقت ، تسللت بهدوء و حذر خارجا من المنزل ...

كان السكون يخيم على الأجواء ... و الكون غارق في الظلام الموحش ... إلا عن إنارة خافتة منبعثة من المصباح المعلق فوق الباب

خرجت إلى الفناء الخارجي ، و كان علي أن أترك الباب غير موصد ... و سرت إلى البوابة الخارجية ... فإذا بي أسمع صوت الباب يفتح من خلفي ..

استدرت إلى الوراء ... فإذا بي أرى رغد تطل من فتحة الباب !

صمدت في مكاني مندهشا !

رغد أخذت تنظر إلى و إلى الحقيبة التي في يدي ... ثم تهز رأسها اعتراضا ... ثم تقبل إلي مسرعة ...

" وليد ... لا ... لا ترحل أرجوك "

حرت و لم يسعفني لساني بكلمة تناسب مقتضى الحال ... سألتها :

" لم ... أنت مستيقظة الآن ؟؟ "

رغد حدقت بي مدة ، و بدأت الدموع تنحدر من محجريها ...

" أوه ... كلا أرجوك ! "

قلت ذلك بضيق ، فأنا قد خرجت في هذا الوقت خلسة هروبا من هذا المنظر ...

إلا أن رغد بدأت تبكي بحدة ...

" لا تذهب وليد أرجوك ... أرجوك ... ابق معنا "

قلت :

" لا أستطيع ذلك ... أعني ... لدي عمل يجب أن أعود إليه "

و في الحقيقة ، لدي واقع مر يقف أمامي ... علي أن أهرب منه ...

رغد تهز رأسها اعتراضا و استنكارا ... ثم تقول :

" خذني معك "

ذهلت لهذه الجملة المجلجلة ! و اتسعت حدقتا عيني دهشة ...

رغد قالت :

" أريد أن أعود إلى بيتنا "

" رغد !! "

دخلت رغد في نوبة بكاء متواصل ، خشيت أن يخترق صوتها الجدران فيصل إلى البقية و يوقظهم ... و نبدأ دوامة جديدة من الدموع ...

قلت :

" رغد ... أرجوك كفى ... "

رغد قالت بانفعال ، و صوتها أقرب للنوح منه إلى الكلام :

" أنا ... وفيت بوعدي ... و لم أخن اتفاقنا ... لكنك كذبت علي ... و لم تعد ... و الآن بعد أن عدت ... تبادر بالرحيل ... و تنعتني أنا بالخائنة ؟ إنك أنت الخائن يا وليد ... تتركني و ترحل من جديد "

كالسم ... دخلت هذه الكلمات إلى قلبي فقتلته ... و زلزلتني أيما زلزلة ...

قلت مندهشا غير مستوعب لما التقطت أذناي من النبأ الصاعق :

" لم ... لم ... تخبري أحدا ... ؟؟ "

رغد هزت رأسها نفيا ...

قلت بذهول :

" و لا ... حتى ... سامر ؟؟ "

و استمرت تهز رأسها نفيا و بألم ...

فشعرت بالدنيا هي الأخرى تهتز و ترتجف من هول المفاجأة ... تحت قدمي ّ

قالت :

" كنت ُ أنتظر أن تعود ... لكنهم أخبروني أنك لن تعود ... و لا تريد أن تعود ... و كلما اتصلت بهاتفك ... وجدته مقفلا ... و لم تتصل لتسأل عني و لا مرة طوال هذه السنين ... لماذا يا وليد ؟؟ "

لحظتها تملكتني رغبة مجنونة بأن أضحك ... أو ... أو حتى أن أتقيأ من الصدمة !
لكن ...
ما الجدوى الآن ...
كبتّ رغبتي في صدري و معدتي ، و رفعت نظري إلى السماء ... أُشهد ملائكة الليل على حال ٍ ليس لها مثيل ...

و حسبي الله و نعم الوكيل ...

سمعت صوت تغريد عصفور شق سكون الجو ... و نبهني للوقت الذي يمضي ...

و الوقت الذي قد مضى ...

و الوقت القادم المجهول ...

كم سخرت الدنيا مني ... فهل من مزيد ؟؟؟

" صغيرتي ... أنا ذاهب ... "

رغد ظلت تنظر إلي و تبكي بغزارة ... و لم يكن باستطاعتي أن أمسح دموعها ...

استدرت موليا إياها ظهري ... لكن صورتها بقيت أمام عيني مطبوعة في مخيلتي ...

سرت خطى مبتعدا عنها ... نحو البوابة الرئيسية للفناء ، و فتحتها ...

قلت :

" اقفلي الباب من بعدي .. "

دون أن التفت نحوها ... فهو دوري لأذرف الدموع ... التي لا أريد لأحد أن يراها و يسبر غورها ...

" وليــــــــــد "

و كعصفور يطير بحرية ... بلا قيود و لا حدود ... و لا اعتبار لأي شيء ... أقبلت نحوي ...

استدرت ... و تلقيت سهما اخترق صدري و ثقب قلبي ... و بعثر دمائي و مشاعري في لحظة انطلقت فيها روحي تحلق مع الطيور المرفرفة بأجنحتها ... احتفالا بمولد يوم جديد ...






منذ الساعة التي أجريت فيها المقابلة الشخصية ، و طرح علي السؤال عن خبراتي و مؤهلاتي و عملي في السابق ، أدركت أن الأمر لن يكون يسيرا ...
حصلت على الوظيفة رغم ذلك بتوصية حادة من صديقي سيف ، الذي ما فتئ يشجعني و يحثني على السير قدما نحو الأمام

و خلال الأشهر التالية ، واجهت الكثير من المصاعب ... مع الآخرين .

بطريقة ما انتشر نبأ كوني خريج سجون بين الموظفين ، و تعرضت للسخرية و المعاملة القاسية من قبل أكثرهم

كنت أعود كل يوم إلى المنزل مثقلا بالهموم ، و عازما على عدم العودة للشركة مجددا ، إلا أن لقاءا قصيرا أو مكالمة عابرة مع صديقي سيف تنسيني آلامي و تزيح عني تلك الهموم ...

أصبح صديقي سيف هو باختصار الدنيا التي أعيشها ...

توالت الأشهر و أنا على هذه الحال ، و كنت أتصل بأهلي مرتين أو ثلاث من كل شهر ... اطمئن على أحوالهم و أحيط علما بآخر أخبارهم

علمت أن رغد التحقت بكلية الفنون و أن دانه قد حددت موعدا لزفافها بعد بضعة أشهر .. و أن والديّ يعتزمان تأدية الحج هذا العام ...

أما سامر ، فقليلا جدا ما كنت أتحدث إليه ، حين أتصل و يكون صدفة متواجدا في المنزل ، إذ انه كان يعمل في مدينة أخرى ...

في الواقع ، أنا من كان يتعمد الاتصال في أيام وسط الأسبوع أغلب الأوقات .

لقد تمكنت بعد جهد طويل ، من طرد الماضي بعيدا عن مخيلتي ، إلا أنني لازلت احتفظ بصورة رغد الممزقة موضوعة على منضدتي قرب سريري ـ إلى جانب ساعتي القديمة ـ ألمها ثم أبعثرها كل ليلة !

حالتي الاقتصادية تحسنت بعض الشيء ، و اقتنيت هاتفا محمولا مؤخرا ، إلا إنني تركت هاتف المنزل مقطوعا عن الخدمة .

أما أوضاع البلد فساءت عما كانت عليه ... و أكلت الحرب مدنا جديدة ...
و أصبح محظورا علينا العبور من بعض المناطق أو دخول بعض المدن ...

في مرات ليست بالقليلة نتبادل أنا و سيف الزيارة ، و نخرج سوية في نزهات قصيرة أو مشاوير طويلة ، هنا أو هناك ...

في إحدى المرات ، كنت مع صديقي سيف في مشوار عمل ، و كنا نتأمل مشاهد الدمار من حولنا ...

الكثير الكثير من المباني المحطمة ... و الشوارع الخربة ...

مررنا في طريقنا بأحد المصانع ، و لم يكن من بين المباني التي لمستها يد الحرب ... فتذكرت مصنع والدي الذي تدمر ...

قلت :

" سبحان الله ! نجا هذا من بين كل هذه المباني المدمرة ! ألا يزال الناس يعملون فيه ؟؟ "

أجاب سيف :

" نعم ! إنه أهم مصنع في المنطقة يا وليد ! ألا تعرفه ؟ "

" كلا ! لا أذكر أنني رأيته مسبقا ! "

ابتسم سيف و قال :

" إنه مصنع عاطف ... والد عمّار ... يرحمهما الله ! "

دهشت ! فهي المرة الأولى التي أرى فيها هذا المبنى ... !

أخذت أتأمله بشرود ... ثم ، انتبهت لكلمة علقت في أذني ...

" ماذا ؟ رحمهما الله ؟؟ "

سألت سيف باستغراب ، معتقدا بأنه قد أخطأ في الكلام ... قال سيف :

" نعم ... فعاطف قد توفي العام الماضي ... رحمه الله "


..........







التوقيع

.
.
.




ليس الوجع في أيام الفقد الأولى ، بل حين تأتي الأيام السعيدة
فتجد أنّ من يستطيع مشاركتك فرحتك بشكل أكبر و أعمق قد رحل ..!!










.
.

رد مع اقتباس
قديم 27-05-2009, 06:04 AM   #19
بيادر الحب
المراقب العــام
الصورة الرمزية بيادر الحب

المعلومات





آحدث المواضيع


الاتصال

بيادر الحب غير متصل

بيادر الحب تم تعطيل التقييم
افتراضي رد: [ أنت لي ] رواية جميلة للكاتبة / تمرحنا









فاصل ونواصل ...


غداً نكمل بإذن الله ،،












التوقيع

.
.
.




ليس الوجع في أيام الفقد الأولى ، بل حين تأتي الأيام السعيدة
فتجد أنّ من يستطيع مشاركتك فرحتك بشكل أكبر و أعمق قد رحل ..!!










.
.

رد مع اقتباس
قديم 28-05-2009, 02:24 AM   #20
nermine
مشرفة منتدى الأعمال
الصورة الرمزية nermine

المعلومات





آحدث المواضيع


الاتصال

nermine غير متصل

nermine is on a distinguished road
افتراضي رد: [ أنت لي ] رواية جميلة للكاتبة / تمرحنا

بيادر الحب

ليس لدي ما أقـــــــــــــــــــــــوله سوى أنك رائع مثل هذه الوردة
وسأتابـــــــــــــــــــــــــــعك في صمت



نرمين من المغرب







التوقيع



رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 
   ابحث في المنتدى برعاية Google
واحصل على نتائج افضل    
Search with Google
أدخل العبارة التي تبحث عنها
 
 

ط³ظٹط§ط³ط© ط§ظ„ط®طµظˆطµظٹط© / Privacy-Policy

سياسة الخصوصية / Privacy-Policy جميع الحقوق محفوظة لمنتدى الأعمال

الساعة الآن 08:46 PM
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd
Protected by Mt.AtSh

أنواع التأمين insurance management services http://www.insurance-2.com/
روائع تستحق المشاهدة misc wonders , news http://misc-wonders.blogspot.com/
الربح من الانترنت how to make money online http://moneyrood.blogspot.com/
أغاني للأطفال kids and songs http://kidsandsongs.blogspot.com/
كتاب كيف تصبح مليونير من الانترنت graphic design http://gfxnew.net/go/
بال ديزاين للتصميم والاستصافة hosting and web design http://paldesign.net/