عرض مشاركة واحدة
قديم 02-09-2006, 01:57 AM   #2
~*الفراشـــــة*~
الغالــــية
الصورة الرمزية ~*الفراشـــــة*~

المعلومات





آحدث المواضيع


الاتصال

~*الفراشـــــة*~ غير متصل

~*الفراشـــــة*~ is on a distinguished road
افتراضي

[align=center]

’،؛ فـنـجاننا ألأول ؛،’




هذه القصة فارت بالمركز الثاني في مسابقة القصة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية للعام
1425/1426هـ



اخترتها لكم , ولن أزيد ,,



دعوا القصة تتحدث عن نفسها ,, ودعوا الجائزة تتحدث عنها ,,
وبعد أن تحتسونها انتظر حديثكم حولها ,,





/
/




" ينتعلون المــوت "





لم يَعُد في البيت ما يٌغري صياح عصافير بطني المتعالي بالصمت ، الخواء يعلو المطبخ الـصغير ، أفتش البراد في يأس دون أن أجد أي شيء سوى خبزٍ قارب على العفونة، الحقّ أنه كان مستودعًا تافهًا لا يحمل سوى فرنٍ عتيق أحضره إلينا أحدهم بعد أن ذهب لونه وأصبح يصلح للنفايات ، وبراد لا يُحسن تبريد ما بداخله والقليل من أوانٍ مشكّلة ..
أتلفت من حولي بحثًا عن لقمة فلا أجد سوى أكياسٍ متكدسة تحمل مناديل ورقية وحواجز تقي السيارات من شمس الظهيرة وقوارير ماء مكومة ، و ميادليات لا يرغب بهـا أحد ..

- أنت يا ولد .. هيه ..!

صوت والدي القادم يفزعني بغلظته وكأنه يصيح في أذني رغم بُعده بونًا شاسعًا في غرفته التي بات يلازمها دون أن يخرج منها بعد شلله.. أصبحتْ نفسيته جدُّ ممزقة منذ فارق السجن .. وأعصابه تنافس النار لهيبًا .. أمضي إليه عَجِلاً لئلا تطالني قذائف لعانته.. يصيح بي ألاّ أجلس كالنساء في المنزل .. يعيّرني كثيرًا ثم يقذف في وجهي كيسًا أسودا لا يشفّ عما فيه ويصيح بنزق:

- لا تبعه إلا في المساء وانتبه من الشرطة ، سأتبرأ من معرفتي بالأمر لو علموا ..!

ابتسمُ لعبارته .. ربمـا كمدًا وربما شفقةً بـمسؤوليةٍ أبويّة لا يُمثّلها .. أخرج في الصباحات أبحث عن من يشتري مني قوارير الماء ولو شفقةً .. الشمس تـلاحقني بأشعتها في كل جهة أقصدهـا .. لم أكن أخشى ضربة شمس أو رعافًا أنفيّا كما في السابق .. حظي منها أن ألفتها وألفتني فما عادت تترك سوى بصماتها على وجهي المُحترق .. لم يُعد أحد يشتري الماء رغم أن الشتاء لم يشرع أبوابه بعد .. ربما لأنهم يظنون أننا نعيد تعبئتها في منازلنا بعد أن نلتقط الـقوارير الفارغة ونغسلها ، فرهبوها لئلا يصابوا بلوثة ، حتى المناديل لم تعد تجد طلاّبها بعد العروض التي تطرحها محطات البنزين .. هل فعلوا ذلك لـقطعِ أرزاقنا ولـقتلنا فقرًا فوق الفقر الذي نحياه.. ؟! كنتُ قد طرقت كلٌ المجالات التي ظننت أني سأربح بها .. نصبتُ الكمائن لعصافير بريئة مهاجرة ثم بعتُهـا في أقفاص ملونة ، جمعت علب المشروبات من القمامات المتعفنة ، كلّ هذا لم يكن ليرضي طمع والدي ، بيعي الصباحيّ لا يحمل سوى نتاجاً عقيمًا ..!

الصباح كان من أبغض فترات اليوم لديّ .. لم يكن شعوري المتزامن لأجل شمسه الحارقة أو جرعات الصدمات التي أتجرعها حين أعود محمّلاً بريالات معدودة ، بقدر الألم يمزقني حين أرى من هم في عمري يـطرقون المدارس حاملين كتبهم الثقيلة .. كنتُ أحلم بصفعهم وسلب كتبهم منهم أحيانا، وأحياناً أبارك مساعيهم .. يزعجني تأفف بعضهم حين عودته مثقلاً برأس زجّت فيه المعلومات زجّا وتمنيه أنْ لو كان مكاني في حين أتمنى بحرقة أن ألتحق بمدرسته ولو لـيومٍ واحدٍ .. الأمنيات تغرقني فأفاتح والدي رغم علمي بـجنون الفكرة واستحالتها ، ولم أكن أبالغ مطلقا .. فالدراسة تـشلّ جنيي الصباحي كما يردد دائمًا .. جهليَ الدائم جعلني أضحوكة بعضهم وهم يعيّروني بالسوقيّ المتشرد فندخل عراكا شرسًا ينتهي بالدماء .. أتقاذف الحجارة معهم ، أبصق في وجوههم وأعينهم بقذارة وأشيعهم بلعناتٍ وألفاظ سوقيّة .. كنتُ ولداً سوقيًا لا يتقن إلا المشي حافي القدمين والتلفظ بعباراتٍ دنيئة .. أتصرف بوحشية خُلِقتْ لمرتادي الشوارع .. وأتنقل بين السيارات الـمتوقفة أمام الإشارات بفوضوية..

الليل كان مرتع الرزق والتوجس الـقاتل .. التخوف من أن يقبض عليّ رجالات الشرطة متلبسًا ببيعٍ لا أملك منه ريالاً واحدًا .. الـحشائش والسموم البيضاء يسهل تخبئتها في جيب بنطالي أو جيبي العلويّ .. والقارورات الخضراء أدسها بين الكراتين المتناثرة في الشارع المتسخ .. العمل يومي وشاق ، تُحطّمني رؤية زيٍّ عسكري مبعثرة كل ذرة أمانٍ أحاول لملمتها .. حالما ينتهي هذا اليوم الشاق أجتمع في أزقة ضيقة مع صبيانٍ لا يجمعهم عُمْرٌ واحــد أو جنسية معينة ..خليطٌ ملوّن يـعتمر السجائر ويدخن الحشيش بشراهة .. بعضهم كان يخرق يده بالإبر المخدّرة صارخًا بألم ما يلبث إلا أن يَنقلب ضحكًا هستيريّاً.. نسكر من اللفائف وتحلق أذهاننا إلى أشياء نحلم بهـا ولا نقوى نيلهـا ..تصبح الأحلام حقيقةً فقط بعد كلّ جلسة ليلية ثم تتبعثر مع تشتتنا هنا وهنــاك نحو منازل لا تؤوينا ..

في الثالثة فجرًا اقتحمتُ المنزل بصخبٍ لمْ أدركه ولم يلتقطه سوى سمع والدي المترقب رغم الضجّة التي تُغرق الصالة .. يناديني بلهجة فضولٍ وجشعٍ حقيقية لأنثر أمامه ما خرجت به .. ألقيت إليه خمسمائة تضم فئاتٍ مختلفة .. ضحك قليلاً ضحكته التي أسمعها كل يوم وفي هذا الوقت تمامًا ثم سحبني من جيبي وبصق في وجهي بتلاحقٍ لم أفهمه ، وانهال عليّ ضربًا ..

- تصرف أموالي على حشائشك يا قليل التربية ..! سـأؤدبك يا عديم النفع..

صراخنـا يعلو وأنا أحاول جاهدًا أن أفهمه أن ما يسكرني لم يكنْ سوى عقبُ سيجارة حشيش ألقاه شخص اشتراها مني .. لساني الثقيل لا يسعفني أن أتحدث له وصوته يزداد حدّة .. بعد ساعة كاملة من الضرب استوعبها مني وربت على كتفي بتناقض عجيب وهو يردد : رجل ، رجل .. والله أنك تشبهني ..!

ما هذا التناقض الذي لا يُفهم ..؟ أكانت فصول الضرب تلك خوفًا من صرف المال فيّ أنا صاحب الكدّ فقط .. ؟!لم أعد أفهم .. ولا أحتاج للفهم ..!

ينصرف عني إلى تدخين سجائر متتالية تحترق في فمه لتسدل الستار على كدحٍ يوم كامل يبدده في سجائر لعينة .. وأنا الذي أقف كالمتسول أتلقى الإهانات والـتخويف الدائم بـهيئات المتسولين إن لم أنصرف من حيّ راقٍ محاولاً البيع فيه .. حتى وجبات الغذاء كانت شحيحة لا تكفي أخواتي السبع ولا تـمثّل ما أكسبه ، خمسمائة ليلية .. يا تُرى أين تذهب ..؟!

الشهور تمرّ وأنا بائعٌ يصافح الليل والنهار بلا انقطاع .. زبائن الكيس الأسود يزدادون في كل أيام السنة وينقطع نصفهم في رمضان .. ربما لأن الشياطين تصفد فيه إلا شيطان أبي .. شرهه يحتدّ فلم يعد يعنيه الأكوام الهائلة من الأولاد الذين يركنون في سجون الأحداث .. الدوريّات الأمنية تشدد من فاعليتها .. ينخر الخوف عظامي من رؤيتها في الجوار وأتوسل والدي أن ينتظر حتى تركد لكن توسلاتي تذهب أدراج رياح لامبالاته .. أصبح يقذف في وجهي كيسًا وفي وجه أمي كيسًا آخرَ لتبيعه في مبسطها بخفاءٍ مع الألعاب الناريّة وعلب الكريمات البيضاء والقلائد وهاماتٍ مقلدة مصبوغة بلون الذهب .. أشياء تغري الأطفال و الـنساء البسيطات التي لا يستطعن شراء هامةٍ حقيقية .. في المساء يتراكم من حولها شبابٌ يتلمسون الخفيّ من بيعها.. ربما لا تفهم أي امرأة عابرة أيّ شأن يهمّ الشباب في خردوات نسائية وربما تفهم ولا تملك إلاّ هزّ رأسها في تحمّد وازدراء .. كنتُ أحيانًا أتمنى لو كان قدري أن أولد فتاة ، ربما لأحظى بالقرار المنزليّ كـأخواتي .. وحين أرى أميّ تعمل وهي امرأة أمقت كلا الجنسين وأتمنى لو قدّر لي أن أكون شجرة أو عصفوراً طليقًا لا يُحسن إلا الطيران .. أو ربما حجرًا مهملاً لا يلتفت إليه عابر ..

هذا المساء يبدو مختلفًا .. الشتائم من والدي لم تستقبلني كعادتها .. وأمي لم تعمل أيضًا .. كلّ تفاصيل حياتنا الباهتة تبدو متألقة .. أحملق قليلاً في وجه أختي الكبيرة لتُفهِمني فـتبتسم وتنهض بسرعة .. ما هذا الشعور بالضبط ..؟! أكان خجلاً أم حياءً، ضحكًا أو بكاءً ؟! .. أهي السعادة التي لا أعرف منها سوى مسماها ..؟! المشاعر الإنسانية تفتقر وجودها في هذا البيت حتى ما عدنا نميّزهـا عن بعضها .. أفهم أخيرا أنها خُطبتْ لشخصٍ من حيّ بعيد.. مسكينة هي ، تتأرجح على أعتاب الأربعين دونما خاتمٍ يجمّل إصبعها أو أساور ذهبية تكبّل معصمها .. تملك الكثير من أخلاقٍ وجمال لكن يعوز أهلها سمعةٌ نظيفة .. لا أحد يريد مصاهرة مروّج مخدراتٍ حتى لو امتلك كنوز الأرض فضلا عن كونه شحيحًا كأبي ..!
من أين جاء هذا الفارس ..؟! ألم يكنْ يـعلم بحقيقتنا المقززة .. بأننا نفهم أسرار الليل و نتقن حلّ رموزه .. بـأننا نقود الناس إلى أقصر طرق الموت .. بل نقتلهم بأيدينا القذرة العارية .. بـأن أم العروس تبيع المخدرات مناصفة مع ابنها الذي يلتقط أعقاب سجائر الحشيش من أفواهٍ عشوائية ..؟! يحتفلون بـعرسٍ أغدقته السماء عليهم بعد شحٍ وأنتفض أنا في صمت .. سعيدٌ أنها ستكون زوجةً بعد انتظار ممل ، وحزينٍ لأجل رجل يجهل دواهيَ مخبئة .. أيكون هو مروّجــًا أيضًا ..؟! ربما ..

المراسم تبدأ في البيت الرابض على الزيف .. نوبات عملي بدأت تخفّ قليلا .. ووالدي يمنعني من الـسهر على اللفائف لئلا أعود برأسٍ ثقيل وهلوساتٍ مجنونة .. هل كان يخشى الفضيحة يا تُرى ..؟! وجه أختي يبدو كقمرٍ أغرقه الخسوف ثم انزاح فجأة عنه .. السحابة السوداء التي كنت أراها مرتسمة عليه تلاشت كأنها لم تكلله ذات يوم .. الكلّ مسرور إلا أنا .. أ لأني أخشى أن أستيقظ صباح يومٍ فأجد زينتها قد فارقتهـا وسحابتها المسودّة قد عادت ..؟! أم لشعور حاسد كونها تغادر هذا البيت في حين لا يمكنني .. لا أفهم أيّهما سببي ..!

مساء عُرسها يفاجئني أبي بكيسٍ أسود .. لمَ يقتحم السواد مسائي دائما حتى في اليوم الذي أبدو فيه أخًا للعروس ..؟ هذا الشعور لا يتكرر كثيرًا .. أن أكون رجلاً متأنقًا أتنقل بين الحاضرين برفعةٍ دون أن أضطر للالتصاق بهم ليشتروا أو ينقدوني بعض العملات تصدقا .. أحمل الكيس وأنا في كامل تأنقي ، أنتعل حذاءً جديدًا وأسير به في الطرقات المتسخة لأول مرة .. أتناسى كل شيء سوى العودةِ سريعًا لحفلٍ صاخب .. أدس الكيس في يد رجلٍ مكفهر الوجه وأسحب المبلغ بسرعة منه دون أن أعده .. أركض رافعًا ثوبي الأبيض وتلتهمني أزقةٌ متشتتة ..أصواتُ أبواق الشرطة تبدد سكون شوارعَ ملاصقة فلا أعيرهـا أيّ اهتمام ، اليوم سيلبسهـا شيئا ذهبيًا لم أره من قبل.. شيءٌ لا أريد تفويته.. أدخل الصالة بـجلبة لا ينتبه لها أحد .. النساء يرقصنْ على أصوات جميلةٍ وأخرياتٍ يحملن في أيديهن طبولاً ومزامير .. وهو يمدّ يده ليلبسها سلسلةً ذهبية كعينيهـا اللامعة بهجة .. أشاركهم الرقص .. أصوات النساء تزداد علّوًا.. المشاهد تختلط في عيني .. لا أرى منهـا سوى رجال شرطة يقتحمون المكان ويحيطون بي .. عين أختي تزداد لمعانًا بشيء يشبه ال للالللدموع .. وعريسها ينهض مصطحبًا أهله خارج المكان بذهولٍ غاضب .. تتردد في أذني كلمته (والله أنك تشبهني ) ,,

آهٍ ليتني ظلمتك أبي فلم أشبهك..!




جلنار
24 رجب1425هـ
8 سبتمبر 2004
[/align]






رد مع اقتباس